الحرة بيروت ـ بقلم: كارلو جليان
القيم الثقافية ليست مجرّد إطار نظري يحكم التفاعلات اليومية، بل هي انعكاس للتوترات العميقة في البنية المادية للنظام السياسي. في السياق اللبناني، تبدو القيم الثقافية على تنوعاتها ككيانات متناقضة تحمل في طياتها إمكانيات البناء والهدم، كما احتمالات الاستقرار والتحول. هذه التناقضات ليست عرضية؛ إنها تعبير عن صراع جوهري مستمر منذ الماضي يضج بالفوضى الطائفية والاضطرابات السياسية.
بعد أن تناولنا في الجزء الأول البعد النفس اجتماعي من حيث مركزية العائلة في الحياة العامة؛ كما الفخر بالإنتماء وانعكاساته على تعزيز الهوية أو الانغلاق على الذات العائلية ومرجعيتها؛ إضافة إلى حسن الضيافة كقيمة ثقافية تتطور من الفطرة الإنسانية إلى سلاح إقطاعي طبقي؛ نتناول في هذا الجزء الثاني والأخير الإبداع الثقافي والفني بين عوامل البناء وعوامل الهدم.
الإبداع الثقافي والفني: حرب نفسية مأجورة على الرأي العام، أم مقاومة شعبية؟
الإبداع الثقافي هو في جوهره وسيلة خلّاقة لإعادة تشكيل الواقع بأشكال جديدة وخلق فضاءات تتجاوز الإحباط والانكماش. لكنه لا ينشأ في فراغ، بل يرتبط بشكل وثيق بالسياقات الاجتماعية والاقتصادية التي ينبثق منها. فهو يعكس التناقضات والصراعات التي تهيمن على النظام القائم، ما يجعله أداة مزدوجة تُستخدم إما لرفض هذا النظام أو للتأكيد على صحته. بهذا المعنى، يمكن اعتبار الإبداع وسيلة متجددة تُستخدم وفقًا للظروف: فهو قد يكون أداة للتضليل تعيد إنتاج الهيمنة الثقافية التي تخدم مصالح القوى المسيطرة، أو وسيلة للرفض والنقد تُمارَس من قِبَل المهمشين.
- عوامل البناء:
يُمثّل الإبداع كأداة للوعي الجماعي والتغيير نافذةً تُطلّ على قضايا المجتمع، معبّراً عن معاناة المهمشين ومجسداً لتجاربهم الإنسانية. من الأغنية الشعبية التي توثق النضال، إلى الأدب الذي يتناول قضايا المقاومة واليأس، يتحول الإبداع إلى مساحة للنضال والاحتجاج. هذه الأعمال الفنية تُسهم في بناء وعي جماعي يتجاوز الانقسامات الطائفية والطبقية، وتعزز الهوية الثقافية الوطنية. علاوة على ذلك، فإن الإبداع يفتح أفقاً للتفكير النقدي، ما يُحفّز على إعادة تأطير الواقع والتفكير بحلول جذرية تُعالج المشكلات البنيوية، ما يجعله أداة لبناء تضامن اجتماعي يُمكن أن يُمهّد الطريق أمام التغيير.
- عوامل الهدم:
في المقابل، فإن تسليع الإبداع يعمّق الانقسامات بحيث يتحول الإبداع الثقافي إلى أداة تُستخدم لتكريس الفوارق الطبقية وتجميل النظام القائم. عندما يُسَلّع الإبداع ويُحصر في إطار النخب الثقافية، يُصبح وسيلة لتعميق الانفصال بين الفئات الاجتماعية المختلفة. كذلك، يتم توظيف الفنون والإبداع في كثير من الأحيان لتزييف الواقع، حيث تُروَّج صورة زائفة عن بيئة ثقافية مزدهرة بينما تعاني الطبقات الكادحة من التهميش. هذا الاستخدام المُضلل يُسهم في تشويه الوعي العام، ويُفقد الإبداع قدرته على إحداث التأثير الحقيقي، ما يُعيق أي تحول بنيوي يسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية.
خاتمة
إن هذه العناصر الثقافية اللبنانية التي تناولناها بقيت ثابتة نسبياً رغم التحولات الجذرية. ظاهرة ثباتها النسبي لا تعبّر عن انفصام ثقافي أو ازدواجية معيارية بالمعنى المباشر، بل هي استجابة تفاعلية فطرية مباشرة للتناقضات الجوهرية الكامنة في بنية النظام السياسي والاجتماعي. هذه التناقضات التي تتمثل في التداخل بين الطائفة الأقوى والعائلة النافذة والدولة القاصرة، وبين الفرد المتحرر والجماعة المحافظة، وبين الداخل والخارج، تجعل من القيم الثقافية العامة والخاصة أدوات مقياسية قابلة للتطويع وإعادة التشكيل، بما يتلاءم مع متطلبات البقاء والاستمرارية في بيئة سياسية واقتصادية مضطربة.
ما يبدو أحياناً كتضارب بين المثل العليا والسلوكيات العملية هو في حقيقته تعبير عن مفهوم “تحكّم غير معياري” في القيم، أي تطبيع مع التناقضات بحكم الضرورة. هذا المفهوم يعكس قدرة الثقافة اللبنانية القاصرة على تطويع ذاتها بما يخدم المصلحة المباشرة، سواء أكانت مصلحة فردية أو جماعية. هكذا تتحول القيم، مثل مركزية العائلة والفخر بالانتماء وحسن الضيافة والإبداع الثقافي، إلى أدوات مرنة تُستخدم لتجاوز الأزمات أو التكيف مع التحولات، ما يضمن استمرارية المجتمع ككيان هش ولكنه مرن في التعامل مع المتغيرات.
هذا التكيف ما بين الهشاشة والمرونة، رغم ضرورته للبقاء، يحمل في طياته إشكاليات تتعلق بغياب معايير وقيم واضحة المعالم. فهو يعزز فكرة أن الثقافة ليست منظومة مثالية ثابتة، بل هي آلية ديناميكية تُطوَّع اجتماعياً لضمان الاستمرارية، حتى لو أدى ذلك إلى تهميش العدالة أو المساواة. من هنا، تُظهر الثقافة اللبنانية قدرتها الفريدة على الصمود عبر إعادة تشكيل ذاتها في حدود إعاقتها الدائمة، لأنها تكشف محدودية قدرتها في تحقيق تحول بنيوي عميق يتجاوز التناقضات الأساسية التي تسكن النظام نفسه.
بهذا المعنى، يمكن فهم القيم الثقافية اللبنانية كمرآة تعكس تعقيد الصراعات والتوازنات الداخلية والخارجية، حيث يتشابك الماضي مع الحاضر، المصلحة مع المبدأ، والداخل مع الخارج، ليُنتج نموذجاً ثقافياً متنوعاً ولكنه مركب على شكل متاهة. وبالتالي، يكون هذا النموذج قادراً على الاستمرار، لكنه يواجه تحديات جوهرية في كل جولة لإعادة تعريف دوره ووظيفته على الصعيد الوطني والدولي.
في النهاية، يمكن توصيف ديناميكية الثقافة اللبنانية بأنها براغماتية قاصرة بحكم تكوينها التاريخي والاجتماعي. فهي تتّسم بتناقضات ذاتية غير واعية تجعلها تنزع فطرياً إلى تحقيق الاستمرارية عبر التكيف مع الأزمات بدلاً من السعي لتجاوزها جذرياً أو معالجتها من جذورها. هذه البراغماتية الفطرية، رغم ما تمنحه من قوة صمود للمجتمع، تظل عاجزة عن تحقيق تحوّل سياسي واجتماعي ناضج، ما يُبقي المجتمع أسيراً لدورات الأزمات وإعادة إنتاجها.