الثلاثاء, يناير 21, 2025
0.1 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

كارلو جليان ـ ديناميكية التناقض الجوهري في القيم الثقافية اللبنانية: آلية تحكّم غير معياري يتراوح ما بين البناء والهدم (1 من 2)

الحرة بيروت ـ بقلم: كارلو جليان

القيم الثقافية ليست مجرّد إطار نظري يحكم التفاعلات اليومية، بل هي انعكاس للتوترات العميقة في البنية المادية للنظام السياسي. في السياق اللبناني، تبدو القيم الثقافية على تنوعاتها ككيانات متناقضة تحمل في طياتها إمكانيات البناء والهدم، كما احتمالات الاستقرار والتحول. هذه التناقضات ليست عرضية؛ إنها تعبير عن صراع جوهري مستمر منذ الماضي يضج بالفوضى الطائفية والاضطرابات السياسية.

في ظل هذه التقلبات يبدو جليّاً أنه، ورغم الإضرابات والفوضى المستمرة، بقيت بعض من العناصر الجامعة للهوية الثقافية اللبنانية ثابتة في موقعها لا في قيمها ولا قيمتها، مثل مركزية العائلة والفخر بالانتماء كما حسن الضيافة والإبداع الفني.

البعد النفس اجتماعي: مركزية العائلة في الحياة العامة

في الثقافة اللبنانية، تلعب العائلة دوراً يتميز بالمرونة والتكيف، حيث تتجاوز كونها وحدة اجتماعية تُعبّر عن الانتماء الأولي للفرد، لتصبح مرجعية تنظيمية أساسية بالمعنى الطبقي والطائفي. كما أنها تُشكّل مصدراً أساسياً للأمان النفسي والاجتماعي، خصوصاً في ظل تاريخ مديد من الاضطرابات السياسية والاقتصادية وتراجع دور الدولة كمؤسسة حامية للأفراد. هذا الوضع دفع العائلة لتكون شبكة دعم اقتصادي ونفسي، تتحمل تبعات الضعف الخدماتي والرعاية الاجتماعية.

في هذا السياق، غالاً ما تكون العائلة مضطرة إلى إجراء تسويات ثقافية وقيمية لضمان استمراريتها، مثل التضحية ببعض الطموحات الفردية أو التكيف مع أدوار اجتماعية مفروضة بحكم الواقع. هذه الدينامية المرنة تجعل من العائلة ركيزة للبقاء، لكنها تضعها أيضاً تحت ضغوط هائلة تُعيد تشكيل أولوياتها ووظائفها بحسب الظروف المحيطة.

  1. عوامل البناء:

إن مركزية العائلة كمصدر للصمود يُمكن أن تكون حجر الزاوية في حال التحولات السلبية في الانتظام العام، حيث يتجلى التضامن وتقبّل التضحية المتبادلة كوسيلة للبقاء. فخلال الحرب الأخيرة مثلاً، لعبت العائلات دوراً محورياً في دعم أفرادها النازحين أو المتضررين، حيث قدّمت السكن والدعم المالي والعاطفي في ظل غياب ملحوظ لمؤسسات الدولة.

على المقلب الآخر، يسهّل التماسك العائلي على أفراد العائلة التكيف مع التحولات إذ أتت بشكلها الإيجابي. عندها تكون العائلة بكامل جهوزيتها للاستفادة والانفتاح على فرص جديدة، مما يُسهم في تحسين مستوى حياة أفرادها.

خير دليل على ذلك هي فترة ما بعد الحرب الأهلية، حيث استفادت العديد من العائلات اللبنانية التي تمتعت بتماسك داخلي قوي من التحولات الإيجابية التي طرأت على الاقتصاد في التسعينيات. على سبيل المثال، تمكنت عائلات من الطبقة المتوسطة والعاملة، التي كان لديها نظام دعم عائلي متين، من تمويل تعليم أبنائها في جامعات محلية ودولية، مستغلة فترة الاستقرار النسبي وانتعاش القطاع المصرفي لشراء عدة شقق سكنية وتوزيعها بين أفرادها.

  1. عوامل الهدم:

لا شك أن تضخم مركزية العائلة في ظل التماهي مع الرواسب الثقافية الإقطاعية والطائفية يساهم في تكريس الولاءات الضيقة ويساعد في ترسخ مفهوم الانعزالية والعصبية التي تُضعف بناء المواطنة وتُعيق العمل الجماعي العابر للمناطق والطوائف.

فالاعتماد المفرط على الشبكات العائلية بدلاً من مؤسسات الدولة يُعزز الانتفاع الشخصي والانتهازية ويفتح المجال واسعاً أمام الفساد وهدر الموارد، ما يؤدي إلى إضعاف مفهوم دولة القانون والمؤسسات. تتجلى عوامل الهدم الخاصة بالولاءات العائلية الضيقة بوضوح تام في السيطرة العائلية على المؤسسات السياسية والاقتصادية، كما في ظاهرة التوريث السياسي وتبعاتها.

الفخر بالانتماء: بين تعزيز الهوية والانغلاق على الذات العائلية ومرجعيتها

يعكس الفخر بالانتماء حاجة نفسية واجتماعية للفرد كما الجماعة إلى اثبات الهوية الذاتية، أي التأكيد على الوجود الذاتي وسط بيئة اجتماعية تنافسية تفرض سباقاً دائماً على الموارد والفرص. في السياق اللبناني، يُمارَس هذا الفخر بالهوية بأشكال متعددة: عائلية اقطاعية، طائفية مناطقية، ووطنية ميثاقية. إلّا أن هذا الشعور الموروث بالهوية، الذي يبدو في ظاهره طبيعياً، يحمل في طياته دينامية نفسية واجتماعية معقدة من شأنها ترسيخ الانتماءات الضيقة في ظل مركزية العائلة واحتكار الموارد في المجتمع الطائفي، ما يُعيد إنتاج الانقسامات الاجتماعية ويعيق تجاوزها نحو المشاركة العادلة في تقرير المصير.

  1. عوامل البناء:

يمكن للفخر بالانتماء أن يكون قوة إيجابية دافعة لتجاوز الهويات الضيقة، ليصبح محفّزاً للتضامن الوطني والشعور بالانتماء إلى هوية وطنية جامعة. هذا الإنتماء الأشمل قد يساهم في حماية التباينات الثقافية الهامشية ويعزز الصمود الجماعي، خاصة في مواجهة الأزمات والاضطرابات السياسية والاقتصادية، ويحول دون التهميش الثقافي لأي فئة من مكونات المجتمع. فالتضامن الوطني الذي برز في مظاهرات 17 تشرين الأول 2019، أكّد على تخطي المشاركين الحدود العائلية والطائفية، معبّرين عن فخرهم بهويتهم اللبنانية المشتركة بدلاً من الهويات الطائفية الضيقة.

  1. عوامل الهدم:

عندما يُقيّد الفخر بالانتماء بالهوية العائلية أو الطائفية يتحول إلى أداة تُغذي التعصب والانغلاق، ما يعزز الإنقسام ويعيق أي محاولات للتغيير الاجتماعي أو التحول البنيوي في النظام. بالتالي، فإن الإنتماء، بمفهومه الضيّق، يُستخدم كذريعة لتبرير الامتيازات الطبقية والطائفية، ما يرسّخ هيمنة النخب التقليدية ويُعيق تكوين مجتمع أكثر عدالة. شاهد على ذلك هو استخدام الإنتماء الطائفي والعائلي في المحاصصة السياسية والاقتصادية، كما ظهر مراراً وتكراراً في تعيينات القطاع العام التي تُوزع بناءً على الانتماءات الضيقة بدلاً من الكفاءة.

حسن الضيافة كقيمة ثقافية: من الفطرة الإنسانية إلى سلاح اقطاعي طبقي

لطالما شكّلت الضيافة رمزاً للكرم والدفء الإنساني في الثقافة اللبنانية، فهي تعكس على المستوى النفس اجتماعي التماهي مع أنماط تربوية مستوحاة من الثقافة الإقطاعية الموروثة، حيث يُنظر إلى الضيافة كواجب اجتماعي ومؤشر على المكانة الفردية ومكانة العائلة. بذلك تتحول الضيافة إلى ممارسة تستعرض الهوية الجماعية وتعزز الإنتماء، ولكنها من منظور المادية التاريخية تُظهر تناقضاتها، إذ تنزلق من كونها تعبيراً عن فطرة إنسانية إلى أداة لتثبيت الفوارق الطبقية وتعميقها، مُغلَّفة بغلاف الكرم التقليدي.

  1. عوامل البناء:

الضيافة، في أسمى صورها، تُعزز الشعور بالإنتماء والتضامن في أوقات الاستقرار من خلال الولائم والاحتفالات الفاخرة في الأعراس والمناسبات الدينية. أما في الأوقات الحرجة كالحروب والنكبات، تُظهر استضافة النازحين في الحرب الأخيرة على لبنان قدرة المجتمع على تخطي الانقسامات الطائفية والسياسية وإعادة بناء روابط اجتماعية تآكلت بفعل الصراعات الطائفية والانقسامات المناطقية. هنا، تصبح الضيافة ركيزة للتضامن الإنساني والمجتمعي، بعيداً عن الحسابات المادية والسياسية المباشرة.

  1. عوامل الهدم:

عندما تُختزل الضيافة في ممارسات استعراضية مثل تنظيم حفلات الزواج الباهظة، يتحوّل الكرم إلى وسيلة للتفاخر الطبقي والإقطاعي. تُستخدم المناسبات الاجتماعية مثل الولائم الكبرى والمبادرات الخيرية كأدوات لإبراز القوة الاقتصادية والنفوذ السياسي، ما يُعمّق الاستغلال الطائفي ويكرّس علاقات غير متكافئة بين الطبقات.

على المستوى الفردي، تصبح الضيافة عبئاً ثقيلاً على الأفراد محدودي الدخل، إذ يُدفعون للعيش بما يتجاوز إمكانياتهم المالية تحت ضغط الإلتزام المجتمعي أو بحثاً عن اكتساب لقب، ما يؤدي إلى استنزاف الموارد. هذا إضافة الى شعور ممتد بالإنهاك الاقتصادي والاجتماعي ينعكس سلباً على صحة الأفراد النفسية والجسدية.

الإبداع الثقافي والفني: حرب نفسية مأجورة على الرأي العام، أم مقاومة شعبية؟ مزيد من التفاصيل في الجزء الثاني والأخير.

https://hura7.com/?p=40325

 

 

 

الأكثر قراءة