الأربعاء, مايو 14, 2025
9.6 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

كارلو جليان _ عندما يُصنع الوطن من الخارج: من فضاء الحياة إلى فضاء السوق

الحرة بيروت – بقلم: كارلو جليان

الوطن، في طبيعته الأصيلة، ليس خريطة تُرسم في مكاتب الدبلوماسيين، ولا شعارًا يُرفع في مسيرات عبثية تُغرقها ضوضاء التطبيل. الوطن فضاءٌ يتشكل من حيوات شعبه، من تفاعلهم العميق مع بعضهم ومع الأرض. لكن عندما يُصنع من الخارج، يتحوّل من كونه فضاءً للوجود إلى منتجٍ مُعلّب، يعرض على رفوف الأسواق العالمية، فاقدًا لأي معنى يتجاوز قيمته السوقية.

وطنٌ مصنوعٌ على مقاس الآخرين

حين يُفرض الوطن من الخارج، فإن ما يُصنع ليس وطنًا، بل مسرحية هزلية تُدار بخيوط خفية. حدود تُرسم بالدماء لا بالإرادات، شعوب تُقمع بأدوات داخلية بحجة السيادة، وهويات تُصنع كأدوات لتمرير أجندات القوى المهيمنة.

هذا الوطن المصطنع ليس سوى واجهة تُسوق للخارج، غلاف جميل لمحتوى فارغ. يُباع للشعب كأنه حلم، لكنه في الحقيقة كابوس يُعاد إنتاجه يوميًا. الشعارات البراقة التي تملأ الأفق لا تخفي الخراب الحقيقي الذي يعمق الاغتراب الداخلي لدى المواطن، الذي يجد نفسه عالقًا في وطنٍ لا يشبهه.

السلعنة: تحويل الوطن إلى وهم استهلاكي

حين يتحوّل الوطن إلى سلعة، يُختزل الانتماء إلى استهلاك. تُنتج لنا أوطان مُعلّبة، محشوة برموز سطحية: أعلام، أناشيد، حملات سياحية تُصوّر الوطن كجنّة أرضية، بينما واقعه أقرب إلى الجحيم. يتم استثمار هذا الوهم لتخدير الشعوب، ليتحول المواطن إلى مستهلكٍ لرموزٍ لا تخدمه بقدر ما تخدم مصالح النخب الحاكمة والشركات العابرة للقارات.

الوطن – السلعة يخلق علاقة سطحية بين المواطن وفضائه، علاقة يحكمها السوق وقوانين العرض والطلب. تجد المواطن يُدعى للتفاخر بشيء لا يملك، يُطالب بالتضحية من أجل وطنٍ لا يعترف بوجوده إلا كمصدر للضرائب. إنه وهم استهلاكي يجرّد الوطن من روحه، ويجعل منه أداة لإدامة التبعية الاقتصادية والسياسية.

تشيؤ الإنسان في وطن مستورد

الوطن الذي يُصنع من الخارج يُنتج مواطنًا غريبًا في وطنه. يشعر الإنسان في هذه الحالة بالانفصال العميق، وكأنه لا ينتمي إلى أي شيء حقيقي. هذا الشعور بالاغتراب ليس صدفة، بل نتيجة مقصودة لنظام يسعى إلى سحق الفردية وإعادة تشكيل الهوية بما يتماشى مع أولويات السوق العالمية.

في هذا النموذج، يتحوّل الإنسان إلى مجرد ترس في آلة استهلاكية ضخمة. لا يُعطى مساحة للتفكير أو النقد، بل يُفرض عليه القبول بالخديعة الكبرى: أن وطنه هو ما تراه عيناه في الحملات الدعائية، لا ما يعيشه يوميًا من قمع، فقر، وتهجير.

دور الرأسمالية في تشويه مفهوم الوطن

الرأسمالية العالمية هي المُخرج الأكبر لهذه المسرحية العبثية. عبر أدواتها الاقتصادية والثقافية، تُعيد تشكيل الوطن ليصبح مساحة مفتوحة للاستثمارات الأجنبية واستنزاف الموارد. المواطن، في هذا السياق، يتحوّل إلى زبون في وطنه، تُباع له الخدمات الأساسية بأسعار باهظة، بينما تُباع ثروات وطنه للشركات العابرة للقارات بأسعارٍ بخسة.

هذا التشويه الرأسمالي للوطن ليس مجرد تلاعب اقتصادي، بل هو اغتيال للبُعد الإنساني للوطن. إنه نظام يخلق أوطانًا لا تعرف العدالة، بل تعرف فقط من يدفع أكثر.

مقاومة السلعنة: إعادة الوطن للإنسان

لكن هذه الحالة ليست قدرًا محتومًا إذ يمكن مقاومتها عبر استعادة الوطن من قبضة السوق ومن خيوط الخارج. المقاومة تبدأ بفعل نقدي جذري: تفكيك الخطابات الزائفة التي تُسوّق للوطن كمنتج. علينا إعادة تعريف الوطن كفضاء للحرية والتفاعل، لا كإطار يُفرض علينا من الخارج.

  1. وعي نقدي جديد: وعي يُعيد ربط المواطن بجذوره، ويحرره من الاستلاب الرمزي الذي يُمارس عليه.
  2. بناء التضامن الاجتماعي: رفض النزعات الفردانية التي تُضعف الروابط الجماعية.
  3. سياسات استقلالية: سياسات ترفض الهيمنة الخارجية وتضع الإنسان في مركز الوطن، لا السوق.

الخلاصة

الوطن الذي يُصنع من الخارج ليس وطنًا، بل سلعة فاقدة للروح. إنه قشرة فارغة تُباع للشعب كأنها الحلم النهائي، بينما هي في الحقيقة كابوس يغذي الاستلاب. استعادة الوطن تبدأ باستعادة الإنسان لذاته، لقدرته على التفكير والنقد. وحده الإنسان الحر قادر على تحرير وطنه من قبضة الخارج وإعادته إلى فضائه الطبيعي: فضاء الحياة، لا فضاء السوق. فهل نستعيد لبناننا يوماً؟

https://hura7.com/?p=38901

الأكثر قراءة