الأكلاف الاقتصادية للحرب الدائرة في جنوب لبنان منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي تخطّت، وفق التقديرات، الـ10 مليارات دولار أميركي. فوزير الاقتصاد اللبناني أعلن في نيسان/أبريل الماضي عن تضرُّر قطاع السياحة بنسبة 75% بعد أن بلغت عائداته العام الماضي 7 مليارات دولار. في حين قُدّرت خسائر القطاع الزراعي بما لا يقلّ عن 3 مليارات دولار. تقهقُر لا يشذّ عما خلص إليه التقرير الصادر عن “الإسكوا” هذا العام بعنوان “مسح التطورات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة العربية 2022-2023”. إذ أشار إلى أن الناتج المحلي اللبناني سيتقلّص بنسبة 0.9%.
جاء القرار “اللاحكومي” بخوض حرب مشاغلة وإسناد لجبهة غزّة انطلاقاً من جنوب لبنان في وقت يطبق فكّا كماشة الفراغ السياسي والشغور الرئاسي على البلد. بينما يستمرّ تخبُّط قطاعه المصرفي الذي بلغت خسائره 72 مليار دولار – أي أكثر من ثلاثة أضعاف حجم الناتج المحلي الإجمالي – في ظلّ انعدام أفق حلول يجمع عليها أصحاب المصالح لإعادة هيكلة القطاع ومعالجة الخسائر.
ورغم أن الأجواء لبنانياً بدت إيجابية نسبياً العام المنصرم، مدفوعة بقوّة أداء القطاع السياحي وتدفُّق التحويلات المالية ما أنعش الاستهلاك المحلي، غير أن حالة اللاإستقرار التي فرضتها الحرب الراهنة أعادت خلط الأوراق.
الحرب تنسف التوقعات
بحسب مسْح “الإسكوا”، تقلّص الناتج المحلي الإجمالي اللبناني سنة 2023 بنسبة 3% بعد أن كان من المتوقّع نموّه بنسبة 1.2%. ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى التراجع الكبير الذي شهده قطاع السياحة مع إلغاء شركات طيران عالمية عدّة رحلاتها إلى بيروت منذ منتصف تشرين الأول/أكتوبر الماضي، في وقت أوصت دول عدّة – ولا تزال – رعاياها بعدم السفر إلى لبنان. بدورها، خفّضت شركة الطيران الوطنية عدد رحلاتها من وإلى بيروت ما أثّر على توافُد المغتربين اللبنانيين.
بالنسبة للعامين 2024 و2025، وبعد أن كان من المتوقع أن يرتفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1.3 و2.2 % تباعاً، بات من المقدّر أن يحقّق تراجعاً بنسبة 0.9% نهاية العام الحالي ونموّاً طفيفاً بنسبة 1.9% في العام المقبل كأحد نتائج الحرب. علماً بأن التوقعات قد تتغيّر إيجاباً (في حال وضعت الحرب أوزارها قريباً وشرع المعنيون بوضع مجموعة إصلاحات على سكّة التنفيذ)، أو سلباً (في حال استمرار الحرب وتوسّعها).
التضخم يفاقم التدهور
من ناحية أخرى، سجّل التضخم في لبنان رقماً قياسياً في نيسان/أبريل 2023 حيث بلغ أعلى مستوياته بنسبة 269%. وفي حين بلغ معدّله 117.4% في العام 2023، إلّا أنه من المتوقع أن يتراجع إلى 45.8 و11.9% تباعاً في العامين الحالي والمقبل. ومن شأن هذه النسب المرتفعة أن تستمر في التأثير سلباً على الاقتصاد، بحيث ستنعكس ارتفاعاً في الأسعار وتدهوراً إضافياً في قيمة الليرة، وسيطرة للاقتصاد النقدي المدولر بالكامل. فلتسارُع التضخم آثار على مختلف القطاعات الاستهلاكية، بما فيها الغذاء والنقل والألبسة والسكن والمرافق الحيوية.
من نافل القول إن سبب التضخم الرئيس يُعزى إلى الانخفاض الهائل في قيمة الليرة وانعدام الثقة، بالتالي، في النظام المالي برمّته. ناهيك بالزيادة الكبيرة في المعروض النقدي والتأثير المعقَّد لتعاميم مصرف لبنان التي أفضت للعمل بأسعار صرف متعدّدة وإلى مضاربة في سوق العملة. فلبنان لا زال يعمل بأسعار صرف متعدّدة: السعر الرسمي ويبلغ 15 ألف ليرة للدولار الواحد؛ والجمركي 86 ألف ليرة؛ وسعر منصة “صيرفة” حوالى 89 ألف ليرة؛ وسعر السوق السوداء المستقرّ مؤخراً على ما يقارب 89,600 ليرة بعد أن وصل سابقاً إلى عتبة 140 ألف ليرة.
ثم هناك انهيار إيرادات الميزانية الذي أسفر عن انخفاض حادّ في الإنفاق العام وعن تمويل الإنفاق الحكومي نقدياً، ما عمّق الأرقام التضخمية.
الدين إلى انخفاض… ولكن
ووفق تقرير “الإسكوا” أيضاً، يؤدّي الجمود السياسي إلى تعليق تنفيذ مشاريع الاستثمارات العامة. فالإنفاق الحكومي محدود للغاية ولا يغطي سوى بنود أساسية، منها رواتب موظفي الخدمة المدنية ودعم بعض الأدوية والتحويلات النقدية للأسر المعرّضة للمخاطر. وهي بنود تمّت تغطيتها بواسطة قرض إضافي جرى الاستحصال عليه من البنك الدولي في إطار المشروع الطارئ لدعم شبكة الأمان الاجتماعي للاستجابة للأزمة.
مع الإشارة إلى أن العجز المالي ظلّ ثابتاً عند حدود 5.7% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2023، ويُتوقع أن ينخفض إلى 3.8% هذا العام وإلى 3.7% في العام المقبل. بينما يُتوقّع انخفاض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي من 34 إلى 27% في الفترة الممتدة بين العامين 2023 و2025. ويعود ذلك إلى التدنّي الكبير لقيمة الليرة وانخفاض قيمة الديون المقوّمة بها. لكن، مجدّداً، قد يبعثر إطالة أمد الحرب التوقعات تماماً.
الهجرة “تحدّ” البطالة
من جهة أخرى، يواجه لبنان عقبات كأداء تحول دون تحقيق أدنى شروط التنمية الاجتماعية والاقتصادية. ومردّ ذلك إلى الأزمة طويلة الأمد والمتمادية منذ العام 2019: من جائحة كورونا إلى انفجار مرفأ بيروت، مروراً بالأزمتين الاقتصادية والسياسية وصولاً إلى الحرب اليوم. وهي بيئة حبلى بالتحديات وتصعّب على الشركات العمل بكفاءة، ما يعيق خلق فرص عمل ويساهم في نزوح الأدمغة المفكرة وهجرة الشباب للبحث عن فرص عمل أفضل في الخارج.
هنا، تفيد التقديرات بأن معدّل البطالة بلغ 29.6% في العام 2022. وعلى الرغم من الحديث عن انخفاض طفيف طرأ على المعدل ليبلغ 28.4% في العام 2023 – ويرجَّح انخفاضه إلى 27.6% مع نهاية العام الحالي – إلّا أن ذلك لا يعكس حدوث تعافٍ اقتصادي فعلي. فهجرة الأدمغة هي التي تقلّص أساساً حجم القوى العاملة محلياً.
أزمة النزوح الداخلي
الأسبوع الماضي، أعلن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن أكثر من 110 آلاف شخصاً نزحوا من جنوب لبنان باتّجاه المناطق الداخلية، منذ بدء الحرب. وأوضح أن هؤلاء النازحين يحتاجون إلى ما لا يقلّ عن 110 ملايين دولار للاستجابة لاحتياجاتهم حتى نهاية العام الحالي. علماً بأن وزير البيئة اللبناني أعلن مؤخراً أن لبنان طلب خلال الأشهر العشرة الماضية مبلغاً بقيمة 72 مليون دولار من الدول المانحة، ولم يتلقَّ سوى ثلث المبلغ حتى الساعة.
صحيح أن التوقعات والأرقام تبقى رهن عوامل عدّة، ليس أقلّها استمرار الحرب وغياب السياسات الإصلاحية والتدابير اللازمة لإعادة بناء المؤسسات وجهود إنهاء الجمود السياسي والرئاسي. لكن لا شكّ أن بلداً عاجزاً عن معالجة تقلُّص ناتجه المحلي وتراجُع نموّه الاقتصادي، والحدّ من التضخم والهجرة وارتفاع نسبة البطالة، هو أعجز من أن يتحمّل تبعات حرب فُرضت عليه وعلى معظم أبنائه. فهل يأتي يوم تتحمّل فيه الجهات التي تمعن في توريط لبنان – اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً – بخسائر مليارية مسؤولياتها قبل انهيار ما تبقّى من الصرح فوق رؤوس الجميع؟