الأربعاء, مايو 21, 2025
14.1 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في لبنان

مؤسسة بلا مخالب أم واجهة لتشريع الفساد؟

الحرة بيروت ـ بقلم: كارين عبد النور

في دولة تنهشها المحاصصة وتُديرها منظومة تتقن تمثيل دور الحريص على الإصلاح، بات الفساد ليس مجرّد آفة، بل نظام حكم قائم بذاته. من أعلى الهرم السياسي حتى أبسط معاملة في الإدارات العامة، يتغلغل الفساد بوصفه “القانون غير المكتوب” الذي ينظّم علاقات النفوذ والمصالح. أما مؤسسات الرقابة والمساءلة، فهي في غالب الأحيان مجرّد واجهات تبريرية، خُصّص لها غطاء قانوني وسقف مرتفع من الخطابات… غير أن ما يدور خلف الكواليس مختلف تماماً.

من بين هذه المؤسسات، تبرز “الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد” كإحدى أبرز المحاولات الشكلية – على الأقل حتى اليوم – لتقديم الدولة بمظهر مَن يسعى إلى الإصلاح، بينما لا تزال الأدلة تتكاثر على غياب أي أثر فعلي لها في مكافحة منظومة الفساد المستشرية.

هي هيئة إدارية مستقلة تتمتع بالشخصية المعنوية وبالاستقلالين المالي والإداري، وهي الخصائص التي يُفترض أن تحصّنها من التدخلات السياسية والإدارية. أعضاء الهيئة يتمتعون بحصانات قانونية واسعة، في ما يشبه الحصن التشريعي الذي يُفترض أن يتيح لهم التحرك بحرية وجرأة.

أُنشئت الهيئة بموجب قانون مكافحة الفساد في القطاع العام رقم 175 تاريخ 8 أيار 2020، انسجاماً مع التزامات لبنان تجاه المجتمع الدولي، لا سيما اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (2003). ورغم أن ولادتها القانونية تعود إلى عام 2020، إلا أن القرار الفعلي بتشكيلها صدر لاحقاً عبر المرسوم رقم 15 تاريخ 24 كانون الثاني 2022، فيما عُيّن أعضاؤها الستة بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء رقم 8742 بتاريخ 28 كانون الثاني 2022.

تتكوّن الهيئة من ستة أعضاء متفرغين: القاضي كلود كرم (رئيساً)؛ الدكتور فواز سالم كبارة (نائباً للرئيس)؛ القاضية الدكتورة تيريز علاوي؛ الدكتور علي بدران؛ الدكتور جو معلوف؛ والدكتور كليب كليب.

الهيئة تُولد مخالِفة

وكما هي الحال في معظم تعيينات الدولة اللبنانية، لم تخرج تركيبة الهيئة عن قاعدة المحاصصة الحزبية والطائفية. ستة أعضاء، مناصفة بين الطوائف والمذاهب، يتوزعون على الأحزاب وفق قاعدة التوافق السياسي – لا وفق معايير الكفاءة أو الاستقلالية. فلكل نقابة أن تُرشِّح ثلاثة أسماء، ثم يتمّ اختيار اسم واحد منها وفق اعتبارات معلّبة سلفاً.

أما الأدهى، فتحديد عمر الأعضاء بين 40 و74 عاماً ولمدة ست سنوات، على سبيل المثال، فُصّل ليتّسع لرئيس الهيئة، وهو قاضٍ متقاعد يبلغ من العمر 68 عاماً. علماً بأن التوظيف في الإدارات العامة لا يجوز أن يتخطى قانوناً سن الـ64. فكيف يُسمح اليوم نظرياً ببقاء أحدهم في منصبه حتى بلوغه الـ 80 – وربما أكثر في حال لم يتمّ انتخاب هيئة جديدة بعد انقضاء السنوات الست؟ وهل يمكن فعلاً التعويل على إصلاح بنيوي في قطاع حساس كهذا، من خلال آلية تفتقر إلى الحد الأدنى من المعايير الموضوعية؟

فضيحة التوظيفات وتغلغل المنظمات الدولية

بعد مرور عامين على صدور قانون إنشائها، ورغم إدراجها كهيئة “مستقلة” لا تنتمي إلى الإدارات أو المؤسسات العامة، تمكّنت الهيئة من إقرار نظامها الداخلي والمالي في مطلع عام 2024، بعد سلسلة من التعديلات والتأخيرات المرتبطة برفض رئيس الجمهورية السابق، ميشال عون، توقيع المراسيم بحجة وجود ثغرات قانونية. لكن ما جرى بعد ذلك كشف عن منظومة توظيف هجينة تتعارض جوهرياً مع أبسط معايير الشفافية والمساءلة.

فبموجب قانونها، لا يجوز للهيئة أن تنقل موظفين من مؤسسات الدولة أو تستقطبهم من الوزارات إلا عن طريق مباريات يشرف عليها مجلس الخدمة المدنية. ومع ذلك، تحجّجت الإدارة بعدم توافُر الأموال لفتح باب التوظيف الرسمي، لتفتح بذلك باباً خلفياً للتوظيف العشوائي بمساعدة منظمات دولية – كـ”UNDP” و”Expertise France” – تحت غطاء “التجهيزات المكتبية” و”المكننة”. وهكذا، زرعت هذه المنظمات عشرات الموظفين في الهيئة بحجة “التدريبات”، من خارج الأطر القانونية، إضافة إلى طلاب جامعات لا يخضعون لأي عملية اختيار شفافة.

التبرير الرسمي تمثّل بـ”تسيير المرفق العام”. لكن، في الواقع، تحوّلت الهيئة إلى ملحق تقني للمنظمات الدولية، تُملأ بموظفين يعملون على أنظمة تحتوي على بيانات المواطنين والمعلومات الحساسة. فكيف يُسمح لمتدربين مؤقتين، لا يخضعون لأي رقابة إدارية، بالوصول إلى بيانات الدولة؟ وأين الضمانة بألا تُسرَّب هذه المعلومات؟ وهل من عقود شرعية تمّ توظيفهم على أساسها؟

كل ذلك جرى دون موافقة مجلس الوزراء، وخارج أي إطار دستوري أو مؤسسي. وفي الوقت الذي كان يمكن للهيئة أن تطلب سلفة مالية أو مساهمة من الدولة لتأمين توظيف شفاف، اختارت طريق المنظمات الدولية، ما يكشف أن الهدف لم يكن تفعيل الهيئة، بل الإبقاء عليها كواجهة شكلية، تخضع لتوازنات المموّلين، لا لسلطة الرقابة أو للمحاسبة. وباستثناء موظفة واحدة جرى استقدامها من محكمة التمييز في العدلية، فإن جميع التوظيفات الأخرى حصلت دون المرور بأي مسار قانوني. هكذا، ورغم مرور أكثر من سنة ونصف على تعيين أعضائها، لم تبُت الهيئة بأي ملف فساد أو طلب حق في الوصول إلى المعلومات، وكأن مهمتها الفعلية هي التعطيل لا التفعيل.

من هيئة لمكافحة الفساد… إلى هيئة تُكرّسه؟

الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، التي رُوّج لها كأحد أهم إنجازات الدولة في مسار التزامها باتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، تحوّلت، بعد أكثر من عامين على تشكيلها، إلى كيان إداري عاجز، شبه صامت، بل ومتّهم بالتقصير، وربما التواطؤ.

فمن أبرز مهام الهيئة، بحسب قانون إنشائها، جمع تصاريح الذمة المالية من موظفي القطاع العام من الفئة الثالثة وما فوق، وتشمل حتى موظفي الفئة الرابعة حين يُكلَّفون بمهام أعلى. لكن واقع الحال يكشف أن هذه المهمة، وإن نُفذت شكلياً، لا تملك أي فعالية حقيقية. فالكل يعلم أن الفاسدين لا يسجّلون شيئاً بأسمائهم – الأملاك محوّلة، الأموال مهرّبة، والمصارف أُفرغت من الأرصدة.

أما على مستوى الشكاوى، فالصورة أكثر قتامة. إذ في كانون الثاني 2024، قُدّمت ثلاث شكاوى موثّقة ضد ديوان المحاسبة، والنيابة العامة المالية، والتفتيش المركزي، لعدم تطبيقهم قانون حق الوصول إلى المعلومات، والمستندات المرفقة تثبت ذلك. وبحسب المرسوم التطبيقي، كان يُفترض بالهيئة أن تبُت بهذه الشكاوى خلال شهرين. مرّ الشهران، وجاء الرد: “قرأناها… لم نقرّر بعد”. ومذّاك، لا قرارات، ولا تعليلات، إنما مجرّد روتين بيروقراطي يقذف الشكاوى من مكتب إلى آخر، وكأن الهيئة لا تجرؤ على مساءلة الجهات الرقابية.

وفي ملف آخر لا يقل خطورة، وردت شكوى موثقة عن فساد في مستشفى سبلين الحكومي، مرفقة بكل المستندات. ورغم مرور سنة تقريباً على إرسالها في نيسان 2024، لم يصدر أي قرار، لا بشأن الفساد، ولا بشأن صرف تعسّفي طال إحدى الموظفات هناك. لا ردّ، لا تحقيق، لا محاسبة.

إذاً، الهيئة اليوم أشبه بكائن إداري باهت، يستهلك من خزينة الدولة أكثر مما ينتج. بل إن وجودها، كما بات يردّد كُثر، تحوّل إلى وجه آخر من أوجه الهدر المؤسسي. فبموجب المادة الأولى من نظام الهيئة المالي، مُنحت الهيئة سلفة خزينة قيمتها13  مليار و801 مليون و384 ألف ليرة لبنانية، لتغطية بدلات وتعويضات أعضائها، على أن تُسدَّد السلفة خلال سنة. لكن كيف؟ ومن أين؟

السلفة صُرفت في عهد حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، وتحديداً في كانون الأول 2024. واليوم، لا إنتاج، ولا مداخيل. والمصاريف تُغطى من تمويل خارجي (UNDP). فهل تُستردّ السلفة من عمل الهيئة؟ أم ستُسدَّد من الموازنة العامة، أي من أموال الشعب؟

ويبقى السؤال الجوهري: هل تسلك الهيئة درب إصلاح الدولة؟ أم أنها، كما بات واقع الكثير من المؤسسات، تسير على خطى الدولة الفاسدة نفسها، مكرّسة للفساد بدل مكافحته؟

ختاماً، تبقى الأسئلة معلّقة في هواء بلدٍ تختنق فيه الإجابات: فكيف تستلم منظمات دولية بيانات الإدارات العامة وأرشيفها؟ وبأي شرعية؟ وأين الدولة من كل ذلك؟ ثم، لماذا لا تُجرى مباريات التوظيف عبر مجلس الخدمة المدنية، وفقاً لما ينص عليه الدستور؟ وأين موافقة الحكومة، أو بالأحرى، أين الحكومة نفسها في زمن التحلل المؤسساتي؟

والأهم، ما هو الدور الفعلي لهذه المنظمات؟ أليست هي، في كثير من الأحيان، شريكة غير معلنة في تكريس النموذج القائم بدل إصلاحه؟ وهل بات الخارج، بشعاراته البراقة، جزءاً من الفساد المقنن، لا رقيباً عليه؟

قوانين حق الوصول إلى المعلومات، الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، الإثراء غير المشروع، حماية كاشفي الفساد… جميعها عناوين طنّانة، لكنها في الغالب فارغة المضمون. كأنها، كما كتب المحامي والناشط علي عباس: “ديكور شفاف لتجميل وجه الدولة أمام المانحين، لا أكثر”.

رابط المقال: https://hura7.com/?p=50627

رابط العدد: https://hura7.com/?p=50468

 

الأكثر قراءة