الأربعاء, أبريل 23, 2025
18 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

كارين عبد النور ـ لبنان في قبضة القوى الكبرى: هل من أمل باستعادة السيادة الوطنية؟

الحرة بيروت ـ بقلم كارين عبد النور

منذ نشأة دولة لبنان الكبير، اعتُبر لبنان ساحة لتقاطع المصالح الإقليمية والدولية، حيث تبرز قواه الداخلية كأدوات لفرض الأجندات الأجنبية. وعلى الرغم من أن الدستور اللبناني ينص على مبدأ السيادة الوطنية، إلا أن الواقع بعيد كل البعد عن هذه المثالية. فلبنان كان ولا يزال عالقاً بين القوى الكبرى مثل المملكة العربية السعودية وإيران والولايات المتحدة وفرنسا، ما يجعله يواجه صعوبة في تحديد مسار مستقل يعكس مصالحه الوطنية.

خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) وما تبعها، عانى لبنان من انقسامات عميقة تغذّت على وقع التأثيرات الخارجية. فقد شهدت الساحة السياسية اللبنانية تقسيماً واضحاً إلى معسكرين متناقضين: الأول، تمثل في القوى المدعومة من الغرب والعالم العربي، خاصة الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية؛ والثاني، وهو المعسكر القريب من محور “المقاومة” الذي حظي بدعم سوريا وإيران. والحال أن هذه الانقسامات تجاوزت في الغالب الاختلافات الإيديولوجية لتشكل جزءاً من هيكلية الحياة السياسية في لبنان.

في هذا السياق، تبرز إحدى اللحظات المفصلية في السياسة اللبنانية بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005، حيث أسفرت هذه العملية عن توتر حاد بين المعسكرين. فقد دعمت السعودية وحلفاؤها في “تحالف 14 آذار” مطالب الأخير بسحب القوات السورية من لبنان والتصدي للنفوذ الإيراني، بينما تمسك “تحالف 8 آذار” الذي قاده “حزب الله” بحماية “محور المقاومة” الذي يشمل إيران وسوريا.

بدورها، كانت المملكة العربية السعودية لاعباً أساسياً في السياسة اللبنانية، إذ دعمت القوى السنّية وبعض الأحزاب المسيحية في معارضتها لـ”حزب الله”. ومن خلال استثمارات ضخمة في القطاعين المصرفي والبنية التحتية، سعت الرياض إلى الحفاظ على تأثيرها على النخب اللبنانية. كما قدمت المملكة الدعم المالي المباشر للأحزاب السنّية، بما في ذلك تيار “المستقبل” الذي أسسه الحريري الأب.

ومع ذلك، واجهت هذه الاستراتيجية صعوبة في بلوغ أهدافها، خاصة بعد تراجع الدعم السعودي بعد تصاعد قوة “حزب الله”. كما جاءت استقالة سعد الحريري (الإبن) في العام 2017 من الرياض بمثابة نقطة تحول في العلاقات السعودية – اللبنانية، حيث اعتُبرت هذه الاستقالة مهينة، ما أدى إلى مزيد من انكفاء تأثير الرياض على لبنان.

على الجانب الآخر، لطالما شكّل “حزب الله” ذراع إيران العسكرية في لبنان، حيث أظهرت طهران دعماً مستمراً له عبر توفير الدعم العسكري والمالي. ومنذ مشاركته في الحرب السورية إلى جانب نظام الأسد، أصبح الحزب قوة سياسية وعسكرية لا يمكن تجاهلها في لبنان.

ولم يقتصر تأثير إيران على الدعم العسكري فحسب، بل امتد ليطال شبكة اجتماعية واقتصادية شملت توفير الخدمات الأساسية في المناطق التي يسيطر عليها الحزب، وعلى رأسها الجنوب والضاحية الجنوبية (لبيروت). هذه السياسات إنما عززت قاعدة شعبية واسعة للحزب وجعلته جزءاً أساسياً من المنظومة السياسية اللبنانية.

غير أن الصراع الإقليمي بين السعودية وإيران انعكس بشكل مباشر على كل مرحلة من مراحل الصراع السياسي في لبنان. من تشكيل الحكومات إلى تعيين المسؤولين في الدولة، حيث باتت كل قرارات البلاد المصيرية تخضع لضغوط خارجية شديدة. وراحت كل من الرياض وطهران تستخدم الحلفاء المحليين لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، ما جعل أي عملية انتخابية أو تشكيل حكومة محكوماً بالتوازنات الإقليمية ولا يصل إلى خواتيمه إلّا بشقّ الأنفس.

كذلك، لطالما كان لفرنسا دور رئيسي في الشؤون اللبنانية نظراً لعلاقاتها التاريخية مع لبنان منذ فترة الانتداب. فقد سعت باريس على مدار سنوات إلى تقديم دعم مستمر لتأمين الاستقرار في لبنان عبر مواقف دبلوماسية ومبادرات إصلاحية. وبعد انفجار مرفأ بيروت في العام 2020، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في طليعة الداعين لإجراء إصلاحات جذرية في لبنان، غير أن المبادرات الفرنسية اصطدمت بحاجزي عدم فعاليتها وجمود الطبقة السياسية اللبنانية.

في المقابل، تبنت الولايات المتحدة سياسة أكثر تشدداً تجاه لبنان، حيث فرضت عقوبات على عدد من المسؤولين السياسيين اللبنانيين بسبب فسادهم أو دعمهم لـ”حزب الله”. فسعي واشنطن إلى إضعاف الحزب وزعزعة تأثير إيران في المنطقة ليس سرّاً خافياً. لكن على الرغم من تداعيات هذه العقوبات على الاقتصاد اللبناني، فإنها لم تنجح في إحداث التغيير المطلوب.

كذلك عمد الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ نهج أكثر توازناً في لبنان. ورغم فرض الاتحاد بعض العقوبات على شخصيات لبنانية متورطة في الفساد أو عرقلة عمل المؤسسات، إلّا أن بروكسل تفضّل الدبلوماسية والتعاون على الضغط المباشر. وتُعدّ المساعدات المالية والبرامج التنموية التي يقدمها الاتحاد الأوروبي من بين أكثر الأدوات ضغطاً على أرض الواقع.

بيد أن المشكلة الأكبر التي يعاني منها لبنان تكمن في فقدان السيادة الحقيقية. ففي حين يُعلن أنه دولة محايدة في النزاعات الإقليمية، يشير الواقع إلى عكس ذلك تماماً، حيث تُفرض على الحكومات اللبنانية قرارات تنبع من ضغوط خارجية ما يعكس غياب الوحدة الوطنية والتأثير المفرط للنفوذ الإقليمي والدولي.

في ظل هذه الأوضاع المعقدة، يبرز السؤال: هل يمكن للبنان أن يستعيد سيادته ويعيد بناء مستقبله بعيداً عن التبعية؟

ما شهدناه في الأيام الأخيرة من تدخل أميركي مباشر في تشكيل الحكومة اللبنانية لا يعكس إلّا صورة قاتمة لمستقبل هذا البلد المثقل بالانقسامات والتدخلات الأجنبية. فبعد سنوات طويلة من التأثير الإيراني، الذي تحوّل سمة بارزة في السياسة اللبنانية من خلال دعم إيران الواسع لحلفائها في لبنان، يبدو أن الأخير يواجه اليوم انقلاباً في موازين القوى الإقليمية – ولنتائج الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان دور بارز هنا – حيث تتجه الأنظار نحو واشنطن لتعيد رسم معالم السلطة السياسية في بيروت.

إن التدخل الأميركي الأخير لا يشي بتوجه نحو استعادة السيادة الوطنية في لبنان، بل يعكس انتقالاً نحو وصاية جديدة، كما يرى ويتخوّف كثيرون. وكأنه كُتب لهذا البلد الذي عاش طيلة عقود تحت وطأة نفوذ القوى الإقليمية والدولية أن يصبح رهينة لمصالح خارجية جديدة. وبينما تتزايد الضغوط الدولية على الحكومة اللبنانية لتطبيق إصلاحات اقتصادية وسياسية، فإن فشل هذه الإصلاحات في ظل التحالفات الإقليمية المتشابكة قد يؤدي إلى المزيد من التراجع على حساب السيادة الوطنية.

المطالبة بالاستقلالية والقرار السيادي قد تبدو اليوم كحلم بعيد المنال. ومع ذلك، يبقى الأمل في أن يتمكن اللبنانيون من تجاوز هذه التحديات، ليس عبر التدخلات الأجنبية، ولكن عبر بناء جبهة داخلية موحدة قادرة على مواجهة الضغوط الخارجية والمضي قدماً في طريق الإصلاحات الجادة التي تضمن مستقبلاً مستقلّاً بعيداً عن وصاية أي قوة كانت.

يقف لبنان على مفترق طرق اليوم. فإما أن يواصل السير في نفس النهج، محاصراً على حلبة تنافُس القوى الكبرى وصراعاتها، أو يدخل مرحلة جديدة إيذاناً بإعادة تشكيل هويته السياسية بعيداً عن التأثيرات الخارجية. لكن لتحقيق ذلك، لا بدّ من إرادة داخلية إصلاحية قوية في المقام الأول. وهو امتحان جادّ للغاية أمام حكومة العهد الجديد الأولى.

 

https://hura7.com/?p=44133

 

الأكثر قراءة