الإثنين, يناير 20, 2025
1.7 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

كارين عبد النور ـ من وعد بلفور إلى “طوفان الأقصى”: انتكاسات القضية الفلسطينية بين أوهام الداخل وأطماع الخارج (4 من 4)

الحرة بيروت ـ بقلم: كارين عبد النور

مرّت القضية الفلسطينية بمراحل متعدّدة، ارتبطت كل منها بهزيمة جديدة؛ بدءًا من الانتداب البريطاني مرورًا بنكبة العام 1948، وما تلاها من نكسة 1967، إلى الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، وصولًا إلى مسارات التسوية الهشّة والصدام الدامي – في الداخل الفلسطيني وخارجه – التي زادت الوضع تعقيدًا.

عرضنا في الأجزاء الثلاثة الأولى علاقة ألمانيا القيصرية والهتلرية والحركة العربية بالقضية الفلسطينية، كما توالي الانتكاسات الفلسطينية على يد العرب أنفسهم والناصرية، مرورًا بانتفاضتَي الحجارة والأقصى وصولًا إلى التنازع على السلطة في غزة بين حركتَي “فتح” و”حماس”. ونتطرق في هذا الجزء الأخير، مع المؤرخ والباحث في الشؤون اللبنانية، الدكتور عبد الرؤوف سنّو، إلى تداعيات “طوفان الأقصى” على القضية الفلسطينية ومستقبل الأخيرة على أبواب عودة الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض.

تداعيات “الطوفان” على القضية

كان متوقعاً أن يؤدي حرمان الفلسطينيين من حقوقهم الطبيعية في إقامة دولتهم وتجاهُل العالم لذلك، وإذلالهم اليومي في الضفة والقدس على يد الإسرائيليين، جنودًا ومستوطنين، وانتهاك الوزراء المتطرّفين في حكومة بنيامين نتنياهو لحرمة المسجد الأقصى، وضرب الحصار حول غزة لسنوات، إلى الانفجار الكبير.

بين العامين 2005 و2023، وقعت مواجهات عدّة بين “حماس” والتنظيمات الأصولية في غزة، من جهة، وإسرائيل، من جهة أخرى. لكن أعنفها على الإطلاق وآخرها كان “طوفان الأقصى” في تشرين الأول/أكتوبر من العام 2023. كيف لا وقد اخترقت “حماس” وفصائل إسلامية الجدار الفاصل بين إسرائيل والقطاع وقتلت وأسرت جنودًا ومدنيين إسرائيليين. وليس خافيًا أن العملية جاءت في سياق وقوف إيران المباشر وراء تنظيمات الممانعة الأصولية – من لبنان إلى اليمن – ودعمها وتحريضها بوجه الدولة العبرية ومجموعة دول عربية.

هنا، يعلّل سنّو: “على ما يبدو، فإن “حماس” وحلفاءها لا يمتلكون عمليًا وعلميًا نفس قدرات إسرائيل، ولم يستعينوا بمقولة الرسول، “اعقلها وتوكّل”، أي أن يسبق الاتكال على الله العمل وتقدير التوازن الحقيقي بين الطرفين. فأسفرت المواجهات مذّاك، في ظل الخلل في موازين القوى بين الجانبين، عن خسائر جسيمة في الأرواح والممتلكات وتدمير القطاع، وقتل قيادات الصف الأول في “حماس”، وعلى رأسهم إسماعيل هنية ويحيى السنوار. وقد استنكر عدد قليل من حكومات العالَم الإبادة التي لحقت بالقطاع وتجويع أهله وضرب بنيته التحتية. من هنا، نجحت الاستفزازات الإسرائيلية للفلسطينيين باستكمال إسرائيل لمخططها ضد غزة والضفة للقضاء على “حماس” في الأولى وإعادة احتلال الثانية، إذا ما سار ترامب بمشروع حكومة نتنياهو”.

ترامب ومستقبل القضية

منذ وصوله إلى البيت الأبيض مطلع العام 2017، أشهر ترامب عداءه للعرب وللفلسطينيين، وانحيازه لإسرائيل. وتمثّل ذلك في نقل سفارة بلاده إلى القدس، ووقف تمويل منظمة الأنروا في العام عينه، وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن في العام التالي، كما الإعلان عن صفقة القرن (التي رفضها الفلسطينيون) في العام 2020.

واتّخذ ترامب موقفًا متشددًا من الاتفاق النووي بين بلاده (ومجوعة “5+1”) وإيران في العام 2015 والذي صادق عليه مجلس الأمن. فأعلن انسحابه منه، وفرض على طهران العقوبات بحجة رعايتها للإرهاب وانتهاك حقوق الإنسان. وكان لذلك تداعيات خطيرة على الاقتصاد الإيراني.

فكيف يقيّم سنّو المرحلة المقبلة؟ “لا يُتوقع، على ضوء الأوضاع الراهنة، أن تبدّل عودة ترامب إلى البيت الأبيض موقفه السابق من القضية الفلسطينية، في ظل سياسته الاستقوائية على أوروبا والدولة العربية، وغياب روسيا الكامل عن الساحة الدولية بسبب انشغالها بحرب أوكرانيا. وهكذا، تتوالى حلقات ضياع القضية الفلسطينية في مهب الريح، في أجواء استمرار مفاعيل الأحادية القطبية، وتأييد ترامب المفرط لإسرائيل”.

نسأل عن آفاق تشكُّل الشرق الأوسط الجديد، فيؤكّد سنّو على وجود اتجاه لتغيير خارطة الإقليم تكثّف في الهزيع الأخير من ولاية الرئيس جو بايدن، بهدف التخلص من التنظيمات التي تصنّفها أميركا إرهابية أو موالية لإيران، وتحجيم حكم الملالي في طهران. “أضف إلى ذلك الاضطرابات الطائفية والعرقية الداخلية منذ سقوط النظام السوري وإحكام “هيئة تحرير الشام” (النصرة سابقًا) سيطرتها على سورية، لقطع طريق الإمداد من إيران إلى لبنان عبرها. كل ذلك يجعل المسائل مفتوحة على مختلف الاحتمالات”.

“حظ فلسطين العاثر” الذي أتى على ذكره المفكّر قسطنطين زريق في كتابه “معنى النكبة” لا يزال عاثرًا ومتعثرًا إلى يومنا هذا. إن بسبب المنظمات الفلسطينية التي خرجت عن مسارها الوطني الصحيح لتحقيق مصالح خاصة، أو الأنظمة العربية التي خذلت الفلسطينيين أو تآمرت عليهم ولم تعتمد يومًا استراتيجية ناجعة لنصرة قضيتهم، أو حتى بسبب السياسات الدولية التي تكيل حقوق الشعوب بمكيالين، ومجلس الأمن الخاضع للفيتو الأميركي والعاجز عن تنفيذ ميثاقه بشفافية، ناهيك بالإنسانية الغائبة حينًا والمغيّبة أحيانًا.

ويتابع سنّو: “لم تمضِ بضع سنوات على تأسيس منظمة التحرير حتى انحرفت فصائلها عن مسار التحرير، وشكّلت تهديدًا لبقاء الدولة الأردنية؛ فكان “السبت الأسود”. وعندما انتقلت المنظمة إلى لبنان، أخلّت الفصائل عمدًا بالتوازنات الطائفية الحساسة فيه للإطباق على اللبنانيين ودولتهم. فدعمت المنظمات الفلسطينية المسلمين وقوى اليسار ضد المسيحيين، وكان ذلك أحد أسباب اندلاع حرب لبنان وقرار الولايات المتحدة بإطلاق يد سورية (الطموحة) في لبنان للإمساك بالفلسطينيين الذين كان يهمّهم استمرار حرب لبنان وألّا ينتصر فريق على الآخر كي لا ينتهي وجودهم فيه”. ونقل سنّو عن محسن دلّول في كتابه “حوارات ساخنة” قوله إن عرفات ذكر في أحد مجالسه ما سيكون عليه وضع الفلسطينيين إذا ما انتصرت الحركة الوطنية اللبنانية.

ليس هذا فحسب، بل راح كل من تلك الفصائل يتبع نظامًا عربيًا أو يتموّل منه. وضاعت القضية الفلسطينية في زواريب أحياء البلدات والقرى اللبنانية، أو في أروقة التبعية والاستتباع. فخرجت المقاومة الفلسطينية من لبنان بإكراه إسرائيلي في العام 1982، وسارت على نهج مصر في السلام، لتخسر، منذ أوسلو، الحرب والسلام معًا. وشكّل ذلك سببًا لولادة البديل الإسلامي الذي روّج لسردية إزالة إسرائيل، فيما خسر كل انتفاضاته بين العام 1987 و”طوفان الأقصى”.

الرهانات… ماضيًا ومستقبلًا

فلماذا فشل الفلسطينيون في كل مرة راهنوا على العرب؟ “في العام 1948، ادّعى العرب أن هزيمتهم تعود إلى الأسلحة الفاسدة، ووقوع غالبية دولهم تحت الاستعمار. وروّجوا في العام 1967 إلى أن انهيارهم السريع أمام إسرائيل يعود إلى تجسُّس السفينة “ليبرتي” عليهم. وقالوا في العام 1973 إن الولايات المتحدة أرشدت إسرائيل إلى “ثغرة الدفرسوار” بين الجيشين المصريين الثاني والثالث. أما معاهدة الدفاع العربي المشترك، فبقيت أسيرة الورق وغائبة عن القضية الفلسطينية. بينما تقاسمت الأنظمة العربية فصائل منظمة التحرير منذ العام 1964، من منطلق التبعية لا التحالف، ولم تتوانَ عن إلقاء عبء القضية على كاهل لبنان في اتفاق القاهرة في العام 1969، فيما أقفلت حدودها مع إسرائيل أمام الفصائل، فدفع لبنان ثمن جيرته مع سورية التي تقاسمت النفوذ فيه مع إسرائيل”.

كذلك، عندما وقّعت مصر على معاهدة السلام في العام 1979، فقدت القضية الفلسطينية ظهيرها، نظريًا، فيما لحق الأردن بمصر في معاهدة وادي عربة في العام 1994، وأفشلت سورية “اتفاق 17 أيار” (1983) التطبيعي بين لبنان وإسرائيل. ولم يعد هناك زعيم عربي يتجرأ على قطع تدفُّق النفط إلى الغرب المسانِد لإسرائيل كما حصل في العام 1973. فأصبح السلام مع الدولة العبرية بمثابة استسلام مغلّف بأكذوبة أن السلام هو “خيار العرب الاستراتيجي”، ومبادلة الأرض بالسلام، في حين أرادت إسرائيل السلام الذي يناسبها والأرض معًا.

بعد أوسلوا تحديدًا، فقدت منظمة التحرير وهجها في أعين شعبها، واتّجهت الأنظار إلى النضال الأصولي – الإسلامي الممثَّل بـ”حماس” وطرح مشروع إزالة إسرائيل. صدّق الفلسطينيون ذلك، وانتقلوا من انتفاضة إلى أخرى، ومن “نكسة” إلى أخرى، إلى أن حلّت الكارثة بهم في القطاع والضفة متّخذة شكل الإبادة الإسرائيلية المتواصلة منذ أكثر من العام، دون أن يرفّ للضمير الإنساني جفن.

ختامًا، يعتبر سنّو أن ما من قضية لحقها التجاهل والتنكّر أكثر من القضية الفلسطينية. تارة على أيدي أبنائها، وتارة أخرى على أيدي العرب، وطوراً على أيدي المجتمع الدولي والأمم المتحدة. “انقسم الفلسطينيون بعد أوسلوا بين لاهثين خلف السلام، لغياب خيارات أخرى لديهم، وبين متّكلين على إيران لإزالة إسرائيل من الوجود. وانقسمت الأرض كذلك بينهم؛ من يحكم في الضفة تحت هيمنة إسرائيل، ومن يحكم في غزة ويطلق صواريخه على إسرائيل لتثبيت الوجود. وبعد أحداث نيويورك في العام 2001، تمكّنت إسرائيل من تصوير النضال الإسلامي – الفلسطيني كإرهاب بلغ ذروته مع “طوفان الأقصى”، وأصبح الفيتو الأميركي لا يدافع عن وجود إسرائيل فقط، بل يبرّر الإبادة الشاملة للقضية الفلسطينية، ويعطّل قرارات الجنائية الدولية باعتقال نتنياهو لدوره في إبادة الشعب الفلسطيني. فبات قتل آلاف الفلسطينيين وتجويعهم منذ العام 2023، وجهة نظر، لا أكثر، في عيون الأميركيين وغيرهم”.

أوصل “طوفان الأقصى” القضية الفلسطينية إلى الهلاك، كما يرى كثيرون. فحقّقت إسرائيل ما انتظرته لأعوام لإنهاء القضية تمامًا. أما إعادة انتخاب ترامب، فلا تشكّل أي أمل في تحسّن موقع فلسطين في السياسة الأميركية. فكيف لذلك الموقع أن يترسّخ وقد “خُلقت” إسرائيل بدعم أميركي مباشر وتمدّدت وتوسّعت أرضًا ونفوذًا – لا بل هي أميركا التي تتنكّر لحقوق شعب فلسطين في تقرير مصيره، قبل إسرائيل نفسها؟

https://hura7.com/?p=40224

الأكثر قراءة