الحرة بيروت ـ بقلم: كارين عبد النور
في 9 كانون الثاني/يناير 2025، تمكن لبنان من تجاوز مرحلة الفراغ الرئاسي الطويلة التي استمرت أكثر من عامين ونصف، مع انتخاب الجنرال جوزيف عون رئيساً للجمهورية. فانتخابه جاء بمثابة بارقة أمل للكثيرين الذين يعتبرون أن وصوله إلى هذا المنصب يمثل فرصة تاريخية للخروج من الأزمة السياسية والاقتصادية التي تعصف بالبلاد. ويعزى ذلك إلى سمعة عون العسكرية القوية، حيث يُنظر إليه كقائد قادر على إرساء الاستقرار الأمني والسياسي في لبنان بعد سنوات من الانقسامات الداخلية والتوترات الإقليمية. لكنه في المقابل يواجه العديد من التحديات والصعوبات، التي قد تقف حائلاً أمام تنفيذ أي تغيير حقيقي في البلاد.
مزايا الجنرال جوزيف عون: سمعة عسكرية لا تخلو من الانتقادات
قبل أن يصبح رئيساً، شغل الجنرال جوزيف عون منصب قائد الجيش اللبناني منذ العام 2017. وعلى مدار تلك السنوات، حقق نجاحات لافتة في تعزيز قوة الجيش، خاصة في معركته ضد الجماعات الإرهابية في شمال شرق لبنان، حيث قاد عملية عسكرية ناجحة في العام 2017 لطرد الجماعات المسلحة المرتبطة بتنظيم “داعش” وجبهة النصرة. كما قاد الجيش في مواجهة توترات داخلية خطيرة، خاصة في صيف 2021، عندما تفجر الوضع بين الفصائل السياسية المسلحة في بيروت. ونجح في الحفاظ على وحدة الجيش وسط الأزمة التي بدأت في العام 2019 بسبب الاحتجاجات الشعبية.
علاوة على ذلك، قدّم الجنرال عون نفسه كقائد يستطيع الحفاظ على حيادية الجيش في مواجهة الانقسامات السياسية الحادة، وهو ما أكسبه ثقة كبيرة لدى الداعمين الدوليين، خصوصاً الولايات المتحدة وفرنسا. ومن الجوانب الإيجابية التي أُشيد بها أيضاً قدرته على تأمين الدعم المالي للجيش اللبناني، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي أجبرت الدولة اللبنانية على تقليص العديد من نفقاتها.
لكن رغم هذه النجاحات العسكرية، لا يزال هناك العديد من التساؤلات حول قدرة عون على التحول من قائد عسكري إلى رجل دولة قادر على قيادة لبنان في ظل هذا الوضع السياسي المعقّد. فعلى الرغم من خطاباته التي تناولت قضايا أساسية مثل سيادة القانون، وإصلاح النظام الاقتصادي، إلا أن غياب التفاصيل السياسية والأيديولوجية في تصريحاته يجعل من الصعب تقييم مدى قدرته على مواجهة القضايا الجوهرية التي يعاني منها البلد.
التحديات العسكرية والأمنية: الجيش اللبناني في مواجهة كبرى
من جهة أخرى، لا تزال هناك العديد من التحديات العسكرية والأمنية التي تواجه لبنان في ظل التوترات المستمرة مع إسرائيل. ورغم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين “حزب الله” والدولة العبرية في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، إلا أن العمليات العسكرية بين الطرفين لم تتوقف، بل ظلت مستمرة في مناطق مختلفة من جنوب لبنان. وفي حين يُعتبر الجيش اللبناني القوة العسكرية الوطنية، فإنه يظل محدود القدرات مقارنة بالقوة العسكرية الإسرائيلية.
واحدة من القضايا التي تثير قلقاً عميقاً هي قدرة الجيش اللبناني على الدفاع عن الأراضي اللبنانية في وجه الاعتداءات الإسرائيلية. ففي أكثر من مناسبة، ظل الجيش اللبناني عاجزاً عن اتخاذ أي خطوات فعالة لحماية المواطنين اللبنانيين من الهجمات الإسرائيلية التي استهدفت القرى الجنوبية، بل إن بعض التقارير تشير إلى أن الجيش اللبناني تعامل بتردد مع الهجمات على الرغم من وقوع خسائر بشرية في صفوفه. وفي هذا السياق، يُطرح السؤال: هل يمكن أن يبقى الجيش اللبناني مجرد أداة لفرض الأمن الداخلي، أم أن بإمكانه لعب دور أكبر في حماية سيادة لبنان في مواجهة التهديدات الإسرائيلية المتواصلة؟
الدور السياسي للرئاسة اللبنانية في ظل نظام الطائف
تتوقع بعض القوى الدولية والإقليمية من أن يتمكن عون من تحقيق إصلاحات جذرية، غير أن دوره السياسي يبقى محكوماً بالنظام السياسي اللبناني المعقّد. فاتفاق الطائف الذي أُبرم في العام 1989 ينص على توزيع السلطات بين مختلف الطوائف اللبنانية، ما يؤدّي إلى تقليص الدور التنفيذي لرئيس الجمهورية بشكل كبير. ووفقاً لهذا الاتفاق، فإن الرئيس اللبناني، وهو من الطائفة المارونية، بات يشغل دوراً رمزياً، بينما تم منح السلطة التنفيذية بشكل رئيسي لرئيس الحكومة، وهو من الطائفة السنية، ورئيس البرلمان الذي يمثل الطائفة الشيعية. وهذا التوزيع للسلطة إنما يعكس التوازنات الطائفية التي تقوم عليها السياسة اللبنانية، لكن في الوقت نفسه يحدّ من قدرة الرئيس على اتخاذ قرارات مستقلة أو فرض تغييرات جذرية في البلاد.
ومع ذلك، يتعين على عون أن يتعامل مع هذا الواقع الدستوري وأن يعمل ضمن إطار هذا التوازن المعقّد، حيث سيكون مطالباً بإيجاد توافقات مع مختلف القوى السياسية اللبنانية لتحقيق أي إصلاحات. ويعدّ “حزب الله”، الذي يشكل جزءاً كبيراً من المكوّن الشيعي في لبنان، أحد القوى التي سيكون من الصعب على عون تجاوزها. فالحزب لا يزال قوة مهيمنة لبنانياً، وله تأثيره الكبير على السياسات الداخلية والخارجية للبلاد، ما يجعل أي محاولة لتفكيك هذا النفوذ أمراً بالغ الصعوبة.
التحديات الاقتصادية والاجتماعية: لبنان في أزمة خانقة
إلى جانب التحديات السياسية والعسكرية، يواجه لبنان أزمة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة، حيث يعاني المواطنون من مستويات مرتفعة من الفقر والبطالة. وبدأت الأزمة الاقتصادية بشكل ملحوظ منذ العام 2019، مع انهيار النظام المصرفي، وارتفاع نسسبة التضخم، وتدهور قيمة الليرة اللبنانية، ما تسبب في تزايُد تكاليف المعيشة بشكل كبير. وقد أدى ذلك إلى خروج مئات الآلاف من اللبنانيين في احتجاجات ضد الطبقة السياسية الحاكمة، التي اتهمها الشعب اللبناني بالفساد والعجز عن إدارة الأزمة.
ورغم الدعم الدولي من قِبل صندوق النقد الدولي والمجتمع الغربي، إلا أن الحلول الاقتصادية تبقى بعيدة المنال بسبب استمرار الفساد وعجز الحكومة اللبنانية عن تنفيذ إصلاحات حقيقية. ويجد عون نفسه أمام معضلة كبيرة، حيث سيكون عليه أن يوازن بين تحقيق وعوده الإصلاحية وبين مقاومة القوى السياسية المهيمنة التي قد ترفض أي تغييرات تؤثر على مصالحها.
الرهانات الإقليمية والدولية: لبنان بين محورين متناقضين
أحد الجوانب الأكثر تعقيداً في الوضع اللبناني هو تأثير القوى الإقليمية والدولية على السياسة اللبنانية. فمع تزايُد الضغط الغربي على لبنان من أجل أن يتبنى سياسة أكثر توافقاً مع مصالح دوله في المنطقة، يجد عون نفسه في موقف صعب. فالعلاقة مع إسرائيل، على سبيل المثال، هي قضية شائكة، حيث تسعى القوى الغربية إلى دفع لبنان نحو التطبيع مع الدولة العبرية، وهو ما يعتبره العديد من اللبنانيين تهديداً للأمن الوطني والهوية اللبنانية.
في الوقت نفسه، فإن علاقات لبنان مع إيران وسوريا، وكذلك مع “حزب الله”، حساسة ومعقدة. فإيران تدعم الحزب بشكل كبير، ما يضع لبنان في صراع مستمر بين القوى الغربية الراغبة في الضغط على إيران والحزب، من جهة، وبين القوى الإقليمية التي ترى في لبنان شريكاً في محور المقاومة ضد الهيمنة الغربية والإسرائيلية، من جهة أخرى.
خاتمة: هل يستطيع جوزيف عون تجاوز التحديات؟
في خضم هذه التحديات المعقدة، يبقى السؤال الأهم: هل سيستطيع جوزيف عون أن يحقق التحول السياسي والاقتصادي الذي يحتاجه لبنان؟ إن الخبرة العسكرية التي يمتلكها الرئيس الجديد قد تكون مؤهلة لقيادة لبنان في أوقات الأزمات الأمنية، لكن مسألة إعادة بناء الدولة اللبنانية تتطلب أكثر من مجرد خبرة عسكرية.
يحتاج لبنان إلى رئيس قادر على بناء تحالفات سياسية واسعة، وتحقيق إصلاحات اقتصادية جذريّة، وفي الوقت ذاته، التغلب على الانقسامات الطائفية والسياسية التي تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم. ويبقى الأمل قائماً في قدرة عون على استخدام رؤيته السياسية والإصلاحية لتحقيق التوازن بين مختلف القوى في لبنان، وكذلك في كيفية استعادة ثقة الشعب اللبناني بالمؤسسات السياسية.