بقلم: كارين عبد النور
في ظلّ التصعيد الميداني الذي يشهده لبنان منذ يوم السبت الماضي، من حيث توسيع رقعة الاستهدافات الإسرائيلية وتكثيف الغارات الجوية، تزامناً مع تمادي الانهيار الاقتصادي والشغور الرئاسي والفراغ السياسي، كما العجز عن مواجهة التحدّيات الأمنية والاجتماعية، لا مبالغة في القول إن البلد يقف على حافة الانهيار الكامل.
المشاهد التي تُنذر بفقدان السيطرة على الشارع اللبناني تتوالى، حيث تستشري الفوضى ويتعاظم شعور عام بالإحباط واليأس. الواقع المأزوم يترافق مع حالة الموت السريري المزمن التي تصيب الحكومة اللبنانية. وفي الظروف الحالكة، تتجلّى ضرورة اتّخاذ خطوات استثنائية إنقاذاً لما تبقّى من مخلّفات الدولة وضماناً لحدّ أدنى من الاستقرار.
إعلان حالة الطوارئ وتسليم الجيش اللبناني زمام الأمور ليسا ترفاً سياسياً بل خطوة، كما يراها مراقبون، حاسمة بإزاء ما يحصل لحماية أمن المواطن وصون وحدة البلد. فالمؤسسة العسكرية، كما يعلّل هؤلاء، هي المؤسسة الوطنية الوحيدة التي لا زالت تحظى بثقة الداخل والخارج. بيد أن آخرين يعتبرون هذا الطرح سبباً لنشوب صراعات حادة بين الجيش اللبناني و”حزب الله” قد تؤول إلى حرب أهلية. فبين مؤيدّ ومعارض، ما الذي تنتظره القيادة السياسية لتحمُّل مسؤوليتها التاريخية ووضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار؟
القانون يُلزم والحكومة تتهرّب
البداية قانونية مع المحامي الدكتور باسكال ضاهر. وقد أشار في حديث لجريدة “الحرة” إلى المرسوم الاشتراعي رقم 52 الذي صدر في العام 1967 وقونن حالة الطوارئ في الجمهورية اللبنانية وألزم الدولة، في المادة الأولى منه، إعلان حالة الطوارئ أو المنطقة العسكرية في جميع الأراضي اللبنانية أو في جزء منها عند تعرُّض البلاد لخطر داهم، أو حرب خارجية، أو ثورة مسلّحة، أو أعمال أو اضطرابات تهدّد النظام العام والأمن العام، أو عند وقوع أحداث تأخذ طابع الكارثة.
“هذا النص لم يمنح الحكومة حقّ الاستنسابية في اتّخاذ القرار، إنما ألزمها به من خلال نص وجوبي، وسلطتها هنا إعلانية لحالة واقعية وليست إنشائية. فإعلان حالة الطوارئ يوسّع نطاق سلطة الجيش اللبناني لضبط المرافق والأمن بشكل مسهب، إضافة إلى حماية الأمن الإنساني بمفهومه الواسع أي الغذائي وما شابه، ومنع المتاجرة بالشعب اللبناني وضبط الأسعار ومراقبة المدخولات والمخروجات. ومنعاً لأي احتكاك مع منتسبي “حزب الله”، يمكن للحكومة إعلان حالة الطوارئ في المناطق البعيدة عن النزاعات، أي بمعنى آخر، استثناء المناطق التي تدور فيها الاشتباكات والأعمال القتالية، والفارغة من سكانها أصلاً”.
نستفسر أكثر عن المسار القانوني لإعلان حالة الطوارئ كما التعبئة العامة، فيشرح ضاهر أن حالة الطوارئ منظمة بالمرسوم الاشتراعي الآنف الذكر، أما حالة التعبئة العامة فمنظمة بقانون الدفاع الوطني. وفيما خص حالة الطوارئ فإن على الحكومة إعلانها وعلى مجلس النواب المصادقة عليها خلال ثمانية أيام وفقاً للمادة الثانية من المرسوم نفسه. عندها يمسك الجيش بزمام الأمور ويتّخذ القرارات حسب ما تقتضيه الظروف حيث تخضع الأعمال كافة لرقابة القضاء المختص. ووفقاً للمادة الثالثة من المرسوم، تتولّى السلطة العسكرية العليا صلاحيات المحافظة على الأمن وتوضع تحت تصرّفها جميع القوى المسلّحة (قوى الأمن الداخلي، الأمن العام، الجمارك، المطارات، رجال الإطفاء وغيرها)، كما يمكنها فرض تكاليف عسكرية وتفتيش المنازل وإعطاء الأوامر بتسليم الأسلحة والذخائر وإبعاد المشبوهين واتّخاذ القرارات المتصلة بحماية الشعب وفرض الإقامة الجبرية على أشخاص ومنع التجوّل والاجتماعات المخلّة بالأمن وما شابه.
وبحسب ضاهر، وفي حال تغاضت الحكومة عن واجباتها الوجوبية، لها أن تعلن على الأقل حالة التعبئة العامة (كما حصل أثناء جائحة كورونا). والمفارقة أنه، وبعد انفجار مرفأ بيروت، تمّ إعلان حالة الطوارئ، فما المانع من اللجوء إلى خطوة مماثلة اليوم لا سيما وأن الهدف يبقى حماية أمن الشعب؟ “وقتها، أعلنت السلطة السياسية حالة الطوارئ لحماية نفسها والتحوّط من أي تحركات شعبية. أما الآن، فهي تمتنع عن ذلك لأنها على ما يبدو تخشى من سلطة الجيش. هذا التخوّف في غير محلّه وهي تثبت أنها، كما دائماً، غير آبهة بحماية أمن الشعب الإنساني. علماً أنه، وفقاً لقانون الدفاع الوطني، لا يمكن للجيش أن يتحرك إلّا بقرار سياسي يصدر بمرسوم. فأين قرار هذه الحكومة التي امتنعت عن إعلان حالة الحرب أو الطوارئ أو أقله التعبئة العامة؟ إن الهجوم الذي نشهده على الجيش اللبناني هو سياسي وليس قانونياً”.
ويختم ضاهر مشيراً إلى أنه، ومع تقاعص الحكومة عن إعلان حالة الطوارئ أو التعبئة العامة وفق ما يقتضيه النص القانوني، يعود لكل مرفق، وبهدف تأمين استمراريته، أن يأخذ بنظرية الظروف الاستثنائية التي تختلف عن حالتي الطوارئ والتعبئة العامة (المنظمتين بقانون وتجدان أساساً فيه)، سواء من حيث مدى كل منها أو فاعليتها. فالظروف الاستثنائية هي نظرية فقهية اعتمدت بالاجتهاد وتطبّق بغض النظر عن إعلان حالة الطوارئ أو التعبئة العامة من عدمه. هذا ويحكمها قاعدة التناسب وهي تُحِل مشروعية خاصة واستثنائية مكان المشروعية العادية؛ وقد باشرت المرافق بالأخذ وبتطبيق هذه النظرية الفاعلة.
الحلّ الوحيد؟
في هذا السياق، يتساءل العميد الركن المتقاعد، جورج نادر، في اتصال مع جريدة “الحرة”، ما إذا كان هناك أخطر من المرحلة التي يمرّ بها لبنان حالياً من أجل إعلان حالة الطوارئ. فهل هو مزيج من التلكؤ واللامبالاة والخوف من الحكم العسكري، كما يفترض البعض؟ “لهؤلاء أقول إن إعلان حالة الطوارئ لا يعني قيام حكومة عسكرية ولا يعطي الصلاحية المطلقة للجيش، إذ على مجلس النواب أن يوافق على قرار الحكومة التي، بدورها، يمكنها رفع حالة الطوارئ ساعة تشاء. صحيح أن التصرّف الأمني يكون للجيش، لكن القرار السياسي يبقى بيد الحكومة”.
وأكّد نادر أنه حين توضع كافة القوات المسلّحة في تصرّف المؤسسة العسكرية، التي تتمتع بالشرعية الشعبية وبحاضنة كبيرة على المستوى الوطني إضافة إلى غطاء دستوري من الحكومة وغطاء عربي كامل ناهيك بالشرعية الأممية، يصبح بمقدور الجيش تحمُّل المسؤولية، مزوَّداً بدفع لتنفيذ المهمة وبالمساعدات الخارجية اللازمة.
واستبعد وقوع تصادُم بين الجيش و”حزب الله”، كما يتوجّس البعض، معتبراً أن إعلان حالة الطوارئ، إن حصل، هو قرار تتّخذه الحكومة التي يسيطر عليها “الحزب” من خلال حليفه الرئيس نبيه بري. “أشكّ في نشوب تصادمات، لكن هل لأحد أن يقدّم لنا حلّاً بديلاً؟ تقوم إسرائيل بتدمير حوالى 200 مبنى سكنياً وقتل نحو 50 إلى 60 مواطناً يومياً. فهل بات دورنا إحصاء أعداد الشهداء والجرحى والمباني المدمّرة بانتظار انتهاء الحرب؟ إسرائيل مصرّة على اجتياح لبنان والقضاء على قدرات “الحزب” الهجومية والدفاعية. وقد يستلزم ذلك عاماً كاملاً. ما هي قدرتنا على تحمُّل الكلف البشرية والمادية؟ الحرب فُرضت على الدولة والأخيرة مسؤولة اليوم عن إعلان حالة الطوارئ”.
تسلُّم الجيش زمام الأمور هو الحلّ الوحيد، وفق نادر، وهو يحتاج إلى غطاء دستوري يضمن تنفيذ مهمته من خلال وضْع كافة القوات المسلّحة بتصرّفه. “عقدنا مؤتمراً صحافياً قبل شهر تقريباً تحت إطار جبهة الإنقاذ الوطني، ووضّحنا أن إقحام الجيش في المواجهات دون غطاء دستوري (أي دون إعلان حالة الطوارئ) هو كلام سياسي فارغ المضمون. وهنا أتكلم من موقع مسؤولية كوني أنتمي إلى مجموعات عسكرية متقاعدة. فثمة أكثر من 10 آلاف عسكري متقاعد مستعدّين للوقوف بأمرة الجيش وحمْل السلاح للحفاظ على الأمن في المناطق البعيدة عن دائرة الاشتباكات كي تتفرّغ القوى في الخدمة الفعلية للتنفيذ”.
… أو تمهيد لحرب أهلية؟
بالمقابل، يقول العميد الركن، الدكتور حسن جوني، لجريدة “الحرة” إن لا ضرورة لإعلان حالة الطوارئ ولا جدوى منها حالياً. فالمشكلة في لبنان ليست أمنية، برأيه. “نحن في حالة حرب مع إسرائيل فما الذي ستغيّره حالة الطوارئ في هجماتها علينا؟ إذا كان المقصود ضبط إيقاع السلاح وسيطرة الجيش على كامل الأراضي اللبنانية، وتحديداً الجنوب، لمنع إطلاق أي صواريخ باتجاه إسرائيل تمهيداً لحلّ معيَّن، فهذا سيتسبّب بحرب أهلية. الجيش، تبعاً لفلسفته وعقيدته، لا يقوم بما من شأنه أن يؤدّي إلى مشاكل مع شريحة واسعة من اللبنانيين وتحديداً مع “حزب الله” الذي يقاتل إسرائيل”.
المطلوب، يضيف جوني، هو الخروج بأسرع وقت ممكن من الوضع الراهن، وذلك من خلال اتفاقٍ ما يرتكز إلى القرار 1701 مع التزام الدولة اللبنانية والطرف الثاني بجدّية التنفيذ. على أن يتمّ العمل، بعد وقف إطلاق النار، على نقاط عدّة أبرزها: مسألة إعادة تكوين السلطة ورئاسة الجمهورية؛ مدى جدوى أي سلاح خارج الدولة والشرعية؛ إعادة النظر بمعادلة “جيش، شعب، مقاومة”، التي هي بمثابة لازمة مزمنة مرافقة لكلّ بيان وزاري، لناحية مدى قدرتها على حماية لبنان، ودراسة هذه المعادلة تماشياً مع خلاصات الحرب الدائرة وتداعياتها، وبالتالي إعادة بناء الدولة القوية؛ المساءلة حول الأسباب التي أوصلت الدولة إلى هذا الكمّ من الدمار وأدخلت البلد في أتون الحرب.
بجميع الأحوال، لا يستطيع لبنان مواصلة التصدّي لهذه المرحلة الحرجة دون اتّخاذ خطوات حازمة وجريئة تعيد الاستقرار وتحمي حياة المواطنين. أما إعلان حالة الطوارئ، أو فرض تدابير مماثلة، فقد تستحيل مع الوقت حاجة على وقع تنامي الفوضى الاجتماعية والتهديدات الأمنية. هناك من يأمل بأن تتكاتف القوى السياسية والشعبية بهذا الصدد. لكن، للأسف، التجربة اللبنانية بفوالق انقساماتها المتجذّرة لا تبعث على التفاؤل.