محمد عبد اللطيف
جريدة الحرة ـ بيروت
في طفولتنا، كان لبنان بمثابة الحلم المعلّق في سماء العرب. تلك البلاد الصغيرة التي كانت فيروز تغنيها كل صباح، وتصافحنا بها مجلات بيروتية بأغلفة براقة، وأفلام مصرية صورتها عدسات السينما كأنها قطعة من الجنة. كان لبنان مرادفًا للجمال، والثقافة، والحرية، والانفتاح. وكان شباب قريتنا في دلتا مصر، في نهاية السبعينيات، يحزمون حقائبهم لقضاء عطلة الصيف أو العمل في بيروت، المدينة التي جمعت في قلبها أرواح المتوسط وملامح الشام وأحلام العرب جميعًا.
لكن الزمن دار دورته القاسية، ولبنان الحلم انقلب إلى كابوس من الحرب الأهلية، والاغتيالات، والانقسامات. رحل من رحل، واحترق ما تبقى من الصورة في ذاكرة جيلنا. واليوم، بعد مرور 36 عامًا على اتفاق الطائف، ذلك الاتفاق الذي أُريد له أن يطوي صفحة الحرب ويُدشِّن عهدًا جديدًا، نجد أنفسنا نسأل: ماذا بقي من لبنان؟ وماذا تحقق من ذلك الحبر الذي سُكِب فوق الورق؟
اتفاق الطائف لم يكن مجرد وثيقة سياسية. كان فرصة ذهبية ليولد من رماد الحرب وطن المواطنة، وطن يتساوى فيه الجميع أمام القانون، وطن لا يسأل أبناءه عن طوائفهم، بل عن أحلامهم، وعن قدرتهم على العطاء والانتماء. لكن، ويا للأسف، لم يتحول الحبر إلى مؤسسات، ولم يُنجز من الإصلاحات سوى العناوين الفضفاضة.
الطائف، في جوهره، وعدٌ بدولة، لا مزرعة طوائف. لكنّ هذا الوعد أُجهض عند أول اختبار. بقيت البنادق مشرعة، والمحاصصة أقوى من القانون، والمواطنة مشروطة بهوية مذهبية، لا وطنية. لا يزال لبنان، بعد كل هذه السنين، معلقًا بين ماضٍ لم يرحل، ومستقبل لا يأتي.
لقد آن الأوان أن يعيد لبنان اكتشاف ذاته. لا يكفي أن نتغنى بالعيش المشترك ونُعلّق شعارات الوحدة في المؤتمرات. المطلوب هو تفكيك بنية النظام الطائفي من جذوره. لا مستقبل للبنان في ظل استمرار الإفلات من العقاب، واستمرار اقتسام الدولة كغنيمة بين الزعامات، وتغليب الولاءات الخارجية على المصلحة الوطنية.
حين يرحل زعيم مثل حسن نصرالله، أو أي زعيم طائفي آخر، لا ينبغي أن يرثه آخر بنفس المنطق. يجب أن تُطوى الصفحة برمّتها، وتُكتب أخرى تبدأ بكلمة “مواطنة”. لبنان لا يحتاج إلى معجزة، بل إلى إرادة. إلى دستور يُحترم، وعدالة تُطبق، ودولة تبسط سلطتها على كامل أراضيها، وسلاح واحد بيد جيش واحد.
هل يمكن للبنان أن يكون واحة للشرق من جديد؟ نعم. إذا سقطت البنادق أمام شجر الأرز، وإذا عادت الأجراس تقرع لا خوفًا بل صلاة، وإذا علت المآذن لا انقسامًا بل تسبيحًا بالسلام، وإذا اجتمع محمد ويسوع على مائدة الحرية. حينها فقط، سينشد اللبنانيون نشيدًا آخر غير نشيد الألم: نشيد الأمل.
لبنان، يا حبنا القديم، يا وجعنا الذي لا يهدأ، لا تعب، لا ملل، لا خوف.
النضال مستمر…
كاتب مصري وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية


