خاص الحرة
أدّت الحرب الشرسة والمدمِّرة على لبنان إلى نتائجَ كارثية على مختلف المستويات. من القتل الجماعي والتدمير الواسع المُمنهح وتغيّر معالم بلدات وأحياء ومدن بأكملها سوّيت بالأرض، إلى النزوح القسري الكثيف تحت التهديدات والضغوط النفسية، فالانهيارات الاقتصادية الإضافية وتراجع عجلة الأعمال والإستثمارات وتوقُف حركة التصدير وشحّ في الاستيراد، إضافة إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية كما الدواء وبعض مستلزمات الحياة، وتوقّف التعليم وتزاحم النازحين إلى مراكز الإيواء في المدارس والمباني العامة والأديرة ودور العبادة الواقعة في المناطق التي تُعتبر أكثر أماناً. وسواءً حلّوا ضيوفاً لدى الأقرباء أو الأصدقاء أو استأجروا منازل وشققاً مفروشة وغرفاً في الفنادق وبيوت الضيافة، حتى بات مجمل الشعب اللبناني مقيماً في نصف مساحة الوطن تقريباً.
هذا علاوةً عن بقاء ما يقارب مليوني نازح سوري في هذه البقعة الجغرافية المكتظة وبخاصة بعد إقفال معظم الحدود البرية بسبب القصف الإسرائيلي الجوي. هذه المساحات والأقضية التي تعاني أساساً من تهالك في بناها التحتية لقِدمها وعدم تجديدها وصيانتها، إضافة إلى شحّ المياه كما “وضع الكهرباء المعروف” وعدم صيانة الطرقات وقنوات تصريف المياه وازدياد حالات التلوث الجوي المترافق مع موجة الحرائق للأحراج، كما وتَضاعُف أعداد السيارات والآليات والمركبات وسوى ذلك.
وقد أثبت الشعب اللبناني خلال هذه الحرب الشرسة والأيام العصيبة أنه شعبٌ مقدام ومحب وإنساني ووطني ومضياف، فاحتضن شركاءه وإخوانه في الوطن ووقَف إلى جانبهم وآزرهُم في هذه المحنة القاسية التي يعيشونها. إلّا أن حالة الإكتظاظ تلك قد تولّد بعض الإحتكاكات أو الحوادث الفردية (المتوقع تكرارها) التي قد تقودنا إلى حيث لا تُحمد عقباه ولا نتمناه بكل تأكيد، إذا ما فُسّرت بغير موضِعها وحجمِها.
يعاني النازح اللبناني جرّاء هذه الحرب المجنونة من أزمة نفسية رُكنها وجوهرها الأساس حالة الإحباط نتيجة القتل والاغتيالات والتدمير الممنهج والتهجير الجَماعي، بينما كان يعيش متسلحاً بمعنويات عالية وحياة كريمة نتيجة فائض القوة التي كان يشعرُ بها بوجود القادة والرموز قبل سلسلة الخسائر التي مُني بها معنوياً ومادياً. بينما ينتابه اليوم شعور بالمهانة بعد فقدانه كل ما يملك خلال ساعات أو دقائق معدودة. وقد أضحى مجروحاً بكرامته إضافة إلى تكبّده مشقّات انتقاله للإقامة القسرية في بيئات، قد لا تؤيده سياسياً ربما، لكنها احتضنته ومدّت له يد العون بكل صدق ومحبة وقناعة وطنية.
بالمقابل فإن المُضيف ليس أفضل حالاً من الضَيف. هو يعيش تداعيات هذه الحرب على مختلف مستوياتها ويمرّ بوضعٍ نفسي مُقلق حياتياً ومعيشياً واجتماعياً وأمنياً، كما يخشى مخاطر الإستهدافات الحاصلة في مناطقه التي يُفترض أن تكون آمنة. وبالتالي فإن الضَيف والمُضيف بحالة نفسية مُتعَبة ولكلّ منهما أسبابه المتشابهة في نواحٍ والمغايرة في أخرى. لذا فالمطلوب من القادة السياسيين والروحيين والزعماء المعنيين، وبشكل حاسم، أمران أساسيان:
- ضبط التجاوزات والتصرفات الإنفعالية والإشكالات الفردية هنا وهناك في هذه الظروف الشديدة الحساسية وإنهائها في مهدها.
- مراقبة ومتابعة ما يُنشر على وسائل التواصل المتفلّتة من عقالها والتي تُسمّم الأجواء وتستفزّ البعض. إذ نسمع ونرى ونقرأ تصريحات حدّاها الشماتة واللوم، كما والردود عليها بالتخوين والتجريح، وكلاهما مرفوض ومُدان. هذا النوع من التخاطب إنما يؤسس للكراهية ويؤجج البغضاء في هذا الظرف الدقيق وبخاصة من قِبل بعض السياسيين والإعلاميين والمغرّدين والناشرين من أصحاب الرؤوس الحامية. وكي لا نحقق لأعداء لبنان رغبتهم وأهدافهم بافتعال فِتن قد تتحول لا سمح الله إلى حرب أهلية مخطط لها بخبثٍ، وبأسوأ نوايا مبيّتة، خدمةً لمشاريع التغيير الكبرى المرتقبة في المنطقة برمّتها. مع ضرورة التنبّه للعملاء والمندسّين من الطوابير الخامسة كما بشّرنا الشيخ محمد الحسيني بأن الفتنة آتية آتية آتية، وحيث لن يخرج منها أي طرف منتصراً وفق قناعتنا.
وهنا يأتي الدور الكبير للجيش اللبناني وسائر القوى الأمنية لضبط الإشكالات من خلال تدخلهم الفوري والحاسم ومعالجتها بحزم لمنع تطورها واتساعها كما لمنع العودة إلى نغمة “الأمن الذاتي” التي تراود أفكار وعقول البعض .
هذا وعلى الشعب اللبناني أن يتحلّى بالصبر من أجل استيعاب واحتواء الآخر والتروي واعتماد الحكمة وطول الأنان، رحمةً بالبلاد والعباد، بانتظار أن تنتهي هذه الحرب بأسرع وقت ممكن وتُقرع أجراس العودة المبشِّرة بقيامة متجددة للبنان.