الأربعاء, مايو 21, 2025
14.5 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

لبنان بين الفقر والانهيار:

معركة مصيرية ضد منظومة الخراب

جريدة الحرة

بقلم: الدكتور بشير عصمت، باحث وأستاذ جامعي في التاريخ الاجتماعي والسياسات العامة

 

  • حين يصبح السلاح حامي المال، والمال حامي السلاح، تنهار الأوطان وتُباع الشعوب في سوق العبيد” – ابن خلدون (بتصرف عن مقدمة ابن خلدون)
  • الشعوب التي ترضخ تحت سلاح التعصب وذلّ الرشوة، لا تحصد غير الفقر والخراب” – جورج أورويل (بتصرف عن روح أعماله)
  • “الأمة التي يذلها الخوف، وتغريها النقود، لا تنهض مهما طال صبرها” – أفلاطون (استيحاء من “الجمهورية”)

لم يعد ما يجري في لبنان أزمة مالية عابرة ولا كارثة طبيعية غير متوقعة، بل بات انكشافًا كاملًا لمشروع طويل الأمد لتفكيك الوطن ونهبه وتحويله إلى أرض جرداء يستوطنها الفساد السياسي والمالي والقضائي. منذ أكثر من ثلاثة عقود، كانت المصارف أداة مركزية في هذه الجريمة المنظمة: بدلًا من أن تكون صروحًا لحماية الادخار والاستثمار، تحولت إلى مصائد لسرقة الناس، فيما السلطة السياسية تواطأت وتآمرت، والقضاء المرتجف غسل يديه من دم الضحايا، والإعلام الفاسد تولى تسويق الأكاذيب وتزيين الجريمة.

المعركة التي يخوضها اللبنانيون اليوم لم تعد معركة قانون أو مادة دستورية، ولم تعد صراعًا لتحسين بعض الأوضاع أو تعديل بعض النصوص. إنها معركة صريحة ومفتوحة بين شعب مسحوق بكل معاني الكلمة، ومنظومة لا تحترف إلا القتل البطيء لوطن بأكمله. فلبنان الذي كان يومًا حلمًا بالازدهار، تحول إلى مختبر تجارب للنهب، تنهار فيه الليرة يوميًا، تغرق الدولة في الديون حتى العنق، تُهرّب الأموال أمام الجميع بلا مساءلة، وتغلق المصارف أبوابها في وجه أصحاب الحقوق بينما تصدر التحويلات إلى الخارج محملة بأموال النافذين.

ما يجري ليس نتاج أزمة عابرة، بل هو التتويج البائس لسياسات نهب ممنهجة استهدفت كل مقومات البقاء: اقتصاد مشلول قائم على الاستدانة لا الإنتاج، مجتمع مسحوق حيث أكثر من 80% من أبنائه يعيشون تحت خط الفقر، شباب عاطل أو مهاجر، مؤسسات تعليمية وصحية منهارة، وسط تدمير كامل لما تبقى من الطبقة الوسطى التي كانت عمود التوازن الوطني. إنه سحق منهجي للمجتمع لصالح أقلية تحتكر الثروات وتحتمي خلف طوائفها وجدران مصارفها.

السياسة في لبنان لم تعد نشاطًا عامًا لخدمة الناس، بل تحولت إلى عملية سطو علني تتقاسم فيها الطوائف الحصص، يُباع فيها كل شيء: السيادة، القوانين، حتى الكرامة الوطنية. الحكومات تُشكل على قاعدة المحاصصة، البرلمان يتحول إلى سوق صفقات، والقضاء يُدار بالريموت كونترول من غرف السياسيين والمصرفيين، حتى صار القاضي الشريف نادرًا، ومعركته خاسرة في وجه مافيا تخنقه بالتهويل الاقتصادي والإرهاب الإعلامي.

وفي قلب هذه الجريمة المفتوحة، تحولت السرية المصرفية من أداة لحماية الخصوصية إلى حصن للسرقة، تتحصن خلفه النخب المالية والسياسية ضد أي محاولة لكشف جرائمهم. ورغم رفع السرية المصرفية، لا ضمانة أن لا تكون التحقيقات كاريكاتورية، مدجنة، تُفرمل عند أول إشارة من النافذين، وسط حملات تهويل منظمة تصور كل كشف للحقيقة كتهديد “للاستقرار المالي”، وكأنهم لم يدمّروا الاقتصاد أصلًا حين سرقوا ودائع الناس ومزقوا صورة لبنان عالميًا.

المافيا المصرفية السياسية متجذرة بعمق: أكثر من 40% من المصارف مملوكة من عائلات سياسية نافذة، ما يعني أن السارق هو نفسه المشرع، والقاضي، والراعي الرسمي للنهب. كيف تُستعاد الودائع، وكيف تتحقق العدالة، عندما يكون الحَكم والجلاد وجهين لعملة واحدة؟ من هنا، تزداد المخاطر في تحول الحديث عن إعادة الهيكلة إلى مجرد غطاء لعملية تبييض شاملة لأموال النافذين، فيما يُلقى بالضحايا، المودعين، تحت عجلات آلة النهب مجددًا، لتحميلهم كلفة الانهيار دون مساءلة للفاعلين الحقيقيين.

المعركة الحقيقية اليوم ليست على نص قانوني هنا أو محاكمة فردية هناك، بل معركة على مستقبل الوطن برمته: بين أن يستمر كغنيمة في يد مافيا سياسية مالية قضائية، أو أن يتحول إلى وطن المواطنين والدولة والمؤسسات. ولا يمكن لأي إصلاح أن يتحقق دون اجتثاث شبكات الزبائنية السياسية، وتفكيك ثقافة الولاء الطائفي الأعمى، وإسقاط منظومة المال السياسي من جذورها، وإقامة قضاء مستقل حقًا، قادر على محاسبة الفاسدين لا تغطيتهم.

زمن التسويات الهزيلة انتهى. زمن “الرتوش” والتنازلات والمراهنات على بعض الإصلاحات الشكلية انتهى. لا شراكة مع ساسة جعلوا من الفساد مذهبًا، ولا مساومة مع قضاء مخطوف، ولا تعايش مع مصارف نهبت شعبًا كاملاً وأفلتت من المحاسبة. المعركة لم تعد بين أحزاب، ولا بين قوى سياسية متنافسة، بل بين مشروعين: مشروع الحياة والكرامة والدولة، ومشروع الفساد والانهيار والخراب.

لبنان اليوم أمام قرار حاسم لا يحتمل التأجيل: إما اجتثاث كامل لمنظومة النهب، أو الغرق الأبدي في قاع الزوال. من يظن أن بعض التجميل كافٍ لم يفقه شيئًا: هذه منظومة لا تصلح، بل تُكسَر. المعركة لم تعد مع مصرف أو سياسي أو قاضٍ، بل مع منظومة كاملة لا خلاص للوطن إلا باجتثاثها من الجذور.

الساعة الأخيرة تدق، وما لم تُطلق انتفاضة جذرية، شاملة، لا ترحم المافيات الحاكمة، فلبنان ذاهب إلى انتحار جماعي صامت. لا خيار آخر. فمن أراد الكرامة والحياة، عليه أن ينتزعها بالقوة الشرعية للتغيير الجذري، لا بالرهانات الواهية على إصلاح قاتل يؤجل الانهيار ولا يوقفه.

لبنان لا يحتاج إلى مسكنات ولا إلى محاكمات شكلية، بل إلى معركة مصيرية تسحق منظومة الخراب من جذورها. كل يوم يمر دون مواجهة حقيقية هو خيانة جديدة للوطن. وكل تسوية مع الفساد هي توقيع على شهادة وفاة لبنان.

اليوم بات الخيار واضحًا: إما اقتلاع الفساد، أو دفن الوطن. إما الانتفاض بكل ما تبقى من إرادة، أو الاستسلام لموت بطيء تتقاسمه عصابات المال والطوائف.

لم يعد للانتظار معنى، ولم يعد للرهانات الواهمة مكان. كل قاضٍ يساوم هو شريك في الجريمة. كل سياسي يصمت هو شريك في الجريمة. كل مصرفي يراوغ هو شريك في الجريمة.

الصعوبة الجوهرية التي تحول دون نهوض الكيان اللبناني تكمن في وجود طرفين لا أخلاقيين يتنازعان على السيطرة، ويتقاسمان أدوات السلطة والتحكم، وإن تفاوتت الحصص. الأول يمسك بالسلاح خارج شرعية الدولة، ويحتكر قرار الحرب والسلم، ويختبئ خلف شعارات المقاومة وهو في جوهره سلطة مذهبية شمولية تقمع باسم الهوية الدينية، وتحكم بالولاء لا بالكفاءة، وبالترهيب لا بالحق. أما الثاني، فيمسك بالمال، ينهب باسم الاقتصاد، ويسيطر على المصارف والموازنات والصفقات، ويبني نفوذه على الرشوة، والزبائنية، وتدمير مفهوم الخدمة العامة. كلا الطرفين يتحالفان ويتنازعان حسب الحاجة، لكنّهما يشتركان في شيء جوهري: إخضاع الناس.

يمتلكان الإعلام، يُديران الفضاء العام، يحددان من يعلو صوته ومن يُخرس، من يُلمّع ومن يُشوّه. الأول يزرع التعصّب الديني ويجعل الطائفة حدودًا للهوية. الثاني يوزّع الرشى، ويحوّل الفقر إلى طاعة، والحاجة إلى إذلال.

هذان الطرفان، وهما وجهان لنظام واحد، لا ينهاران إلّا حين ينتصر الناس لأنفسهم. فكل تأخر في وعي الناس لحقوقهم، كل تردد في خوض المواجهة، هو تأجيل للانهيار لا منعه.

ولذلك، فإن معركة النهوض ليست ضد أزمة مالية فحسب، بل ضد نظام يكمّم الفم، ويُجفف الجيب، ويملأ الشارع بالقمع، والذهن بالخوف أو بالكذب. وحده الشعب حين يدرك أن لا أحد سيمثله سواه، يمكنه أن يبدأ معركة الاسترداد.

لن ينهض لبنان طالما ظلّ ممزقًا بين فكّي كماشة لا أخلاقية: طرف يحتكر السلاح خارج الدولة، وطرف يحتكر المال داخل الدولة، وكلاهما يتقاسمان النفوذ والإعلام، ويقمعان الناس، كلٌّ بسلاحه. أحدهما يلوّح بالدين والمقاومة ليزرع الخوف والطاعة، والآخر يوزّع الرشى ليشتري الصمت والذلّ. يبيعان الوطن على مراحل، ويشتركان في منع قيام أي دولة حقيقية. يتناوبان على الحكم، ويتكاذبان على الشعب، ثم يتآمران معًا متى شعرا بخطر الوعي.

وما لم ينتصر الشعب لنفسه، ما لم يقطع حباله مع سادته المذهبيين والمصرفيين، فسينزف لبنان إلى أن يُمحى من الخريطة، لا بالحرب، بل بالخراب الصامت. إن من لا يقف اليوم في وجه منظومة السلاح والمال والإعلام، لن يجد غدًا دولة يقف على أرضها. المعركة لم تعد على حكومة أو انتخابات، بل على الحق في البقاء كمجتمع وكوطن. فلا إصلاح يُرتجى من داخل المستنقع، ولا عدالة تنبت في ظل المافيا. آن أوان الانتفاض على الدولة العميقة ، بل على العقل المستسلم.

إن من يُسلِّم مصيره لهذين القطبين لا يُطالب بحق، بل يستعير قيده بيده، ويستجدي سقوطه على مهل. وإن شعبًا لا ينتصر لمصالحه، ولا يميّز عدوه من جلاده، سيظل ينزف إلى آخر جيل، ويبيع كرامته في مزاد الخوف أو الجوع. لا نهضة لوطن تحكمه حفنة من المرابين والميليشيات. لا قيامة لشعب ما دام يساوم على كرامته بين البندقية والدولار. لا حرية تُهدى، ولا عدالة تأتي من قَضاة مرتعشين أو رجال دين متعالين أو نخبة مستأجرة.

من يريد دولة، فليعلن العصيان على أدوات القهر. من يريد كرامة، فليستعد لدفع ثمن الحرية. أما من ينتظر الفرج من جلّاديه، فسيُدفن تحت ركام وطن لن يبكيه أحد.

حين يصبح السلاح قيدًا، والمال سُمًّا، ويُختطف الإعلام، لا يبقى أمام الناس إلا العصيان أو الفناء.

الخيار بات جليًا: إما كنس كامل لهذه المنظومة، من جذورها الدينية والمالية والإعلامية، وإما الغرق الأبدي في قاع الزوال.

الساعة لا تدقّ… بل تنفجر.

https://hura7.com/?p=51557

الأكثر قراءة