الأحد, نوفمبر 9, 2025
21.4 C
Beirut

الأكثر قراءة

إصدارات أسبوعية

لبنان ـ ما بين صالونات الطائفية ومحراب الوطن الجامع

جريدة الحرة

بقلم علي خليل ترحيني

صرخة الحيّ وبوصلة الفطرة

كثيراً ما تزدهر الصالونات السياسية المتربعة على إثارة النعرات الطائفية واستغلالها، بينما تختنق حياة الناس تحت وطأة سياسة السياسيين التي فرّقت، لا سياسة وعلاقات عامة الشعب التي أثبتت في كل المحطات أنها تتجاوز البعد الطائفي إلى بُعد إنساني وطني في الكثير من الأوقات.

في قلب بيروت، العاصمة الوطنية، تُنقل شكوى وفد من أحد الأحياء لـ “زعيمهم” حول ازدياد عدد أصحاب محال الخضروات من “طائفة معينة”، مُتجاهلين جوهر المشكلة: لماذا عزف أهل الحي عن العمل في هذا المجال، تاركين فراغاً طبيعياً ملأه من يسدّ الثغرة؟

إن هذا الانشغال بـ “كوتا الطوائف” حتى في بيع الخضروات، بدلاً من مناقشة أسباب العوز الاقتصادي والإنماء المتوازن، يجسّد التنازل الفكري الطائفي الذي يُعطّل قيام الدولة. إنّها مهزلة تحكم الحياة الاجتماعية اللبنانية، بينما ينتظر الوطن مبادئ تنهض به من مهد الطائفية إلى قامة المواطنة.

إنّ بيروت وكل المدن الرئيسية كـ طرابلس، صيدا، صور، بعلبك، النبطية، وجبيل، ليست حكراً لطائفة، بل هي مراكز وطنية جامعة يجب أن تستوعب كل الوطن ومؤسساته.

الأسس الوطنية للنهوض بالدولة اللبنانية

إنّ الوصول إلى دولة القانون والمؤسسات لا يمكن أن يتحقق برضى جميع القوى الطائفية على قاعدة المحاصصة، بل يجب أن ينطلق من مبادئ وطنية بحتة، تكون معياراً لكل مؤسسات الدولة، بعيداً عن التنازل الفكري الطائفي:

– إصلاح التربية والتعليم: مَعْمَل صناعة المواطن عبر إعادة صياغة الفكر الوطني اللبناني الجامع.

– معيار الكفاءة والنزاهة: فصل القضايا الاستراتيجية القومية عن الخلافات على التوظيف، واعتماد العدالة والخبرة والوطنية.

– العدالة الاجتماعية والإنماء المتوازن الشامل: مقاربة كل المسائل الاستراتيجية على أساس وطني موحّد، وتوزيع عادل للثروات والخدمات، ليشمل كل المدن والبلدات اللبنانية من مرجعيون وحاصبيا إلى الهرمل والكورة والشوف.

الإشكاليات الاستراتيجية وحلولها الوطنية الجامعة

السيادة والتموضع الدولي

بوصلة المصلحة الوطنية

تُعدّ مسألة المواقف الخارجية والاختلاف فيها، والنظر إلى التحديات من وجهة نظر تحالفات القوى مع دول ومؤسسات دولية، أحد أخطر معوّقات السيادة. فالدول والمؤسسات الدولية تبحث عن مصالحها بالدرجة الأولى. وعليه، يجب أن تكون القاعدة الذهبية هي: صون المصالح الوطنية اللبنانية بغض النظر عن المنطقة أو الجماعة اللبنانية التي تتعرض لهذه الأزمات أو المشاكل.

أمثلة لسيادة واضحة لا تقبل الجدال

– الخيار الدولي: عندما يُعرض على لبنان مشروع لربط شبكات الغاز الإقليمية، يجب أن يُحسم القرار بناءً على مردوده الاقتصادي على الخزينة الوطنية (كمثال: تعزيز مؤسسة كهرباء لبنان) واستقراره القانوني، وليس بناءً على انحياز طرف لبناني لمحور إقليمي على حساب طرف آخر. السياسة هنا هي صيانة المال العام والخدمات الوطنية.

– العلاقات الإقليمية: يجب أن تكون كل الخيارات الدولية والعلاقات الإقليمية مُصممة لتكون ضمن مصالح لبنان وليست على حسابه. السيادة لا تكون شعاراً، بل فعل وطني عندما تكون العلاقة مع أي دولة خارجية مرهونة بـ احترامها للقوانين اللبنانية وعدم تدخلها في شؤون التوظيف أو القرارات الاستراتيجية. السيادة الوطنية لا تكون إلا من خلال رؤية وطنية وفكر وتربية وطنية جامعة.

يجب الاستفادة من تجارب الحروب السابقة التي لم تنتج إلا الدمار والخراب والمأساة والفرقة، والانطلاق نحو مشاريع تخدم لبنان.

البنية التحتية والمستقبل: مشاريع وطنية عابرة للطوائف

يجب الاستفادة من تجارب الحروب السابقة التي لم تنتج إلا الدمار والخراب والمأساة والفرقة، والانطلاق نحو مشاريع تخدم لبنان ككل. إنّ معالجة التحديات البنيوية تتطلب رؤية استراتيجية ذات عمق فلسفي وواقعي:

– المواصلات والنقل: يجب أن يكون الحل الوطني الجامع هو بناء خطوط السكة الحديد وربط المدن الكبرى والمناطق المنتجة كمشروع وطني قومي يسهّل حركة البضائع ويقلل كلفة الإنتاج والوقود، ويشمل السهل والجبل والساحل. فالنظرة النقدية هنا ترى في السكة الحديدية أداة للاقتصاد الوطني الجامع تخدم جميع المناطق بالتساوي، وتتجاوز أي خلاف محلي ضيق لتصبح أساساً للإنماء المتوازن.

– الإنماء الزراعي: ينبغي وضع خطة وطنية لتطوير الزراعة وإنشاء صناعات غذائية تحويلية، وإقرار قوانين حماية المنتج الوطني، لاسيما في مناطق بعلبك، عكار، والجنوب. ويقوم هذا الحل على مبدأ الأمن الغذائي والسيادة الاقتصادية، حيث تخلق الزراعة فرص عمل محلية وتصون الأرض وتؤمّن الاكتفاء النسبي، وهو أساس لتقليل التبعية الاقتصادية للخارج.

– التعليم وسوق العمل: يقتضي الأمر استشراف المستقبل في ربط التعليم والتدريب المهني بالحاجات الأساسية للاقتصاد الوطني، خاصة في قطاعات التكنولوجيا، الطاقة المتجددة، والزراعة الحديثة. وهذا يمثل بناء للقدرات الوطنية، فمن خلال تخريج كفاءات تتطابق مع احتياجات التنمية يلغى الحاجة إلى العمالة الأجنبية في قطاعات معينة، ويقلل الهجرة، ويحصّن الاقتصاد بالخبرة الوطنية.

– المرافق الحيوية: يجب أن تُدار المرفأ، المطار، والكهرباء كـ مؤسسات عامة ربحية تُعزز الخزينة، وتُمنع المحاصصة فيها بالكامل، وتُخضع لأشد أنواع الرقابة. إنّ هذا هو السبيل إلى تعزيز المؤسسات العامة؛ فالمؤسسة العامة القوية والمربحة هي الضمانة الوحيدة لتمويل الدولة وخدماتها دون اللجوء إلى القروض أو الجباية المباشرة من جيب المواطن.

لبنان ليس حلماً ضائعاً، بل دولة مواطنين تنتظر ولادة جديدة تحكمها قواعد العقل والمنطق الوطني. إنّ السياسة في مفهومها العميق ليست فن الممكن في تقاسم الحصص، بل هي فن إدارة الموارد الوطنية لتحقيق الخير العام الأقصى. وعندما يختلف الفرقاء على توظيف “فراش” أو “كاتب” في مؤسسة، ويهملون ملف الكهرباء الذي يدمّر الاقتصاد، فإنّهم يمارسون سياسة تفكيك الدولة، لا فن إدارة شؤونها.

إنّ السيادة الوطنية تكمن في قدرة الدولة على أن تقول “نعم” أو “لا” لأي قوة إقليمية أو دولية، وأن يكون معيارها الوحيد هو المصلحة الوطنية العليا. فبدل أن يتناحر اللبنانيون حول مَن هو الصديق ومن هو العدو في الخارج، يجب أن يتفقوا على أن اللبناني هو الصديق والعدو الأوحد هو الفساد والفكر الطائفي المُعطّل.

إنّ الرهان ليس على توبة الزعماء، بل على يقظة المواطن المنتج الذي تتبلور في وعيه أن الطائفية هي العدو الفكري للوطن. وبناءً عليه، لا خلاص للبنان إلا بـ تشريع يُجبر الجميع على أن يكونوا لبنانيين أولاً وأخيراً في تعاطيهم مع مؤسسات الدولة، وأن يُقام نظام سياسي يقدّس الكفاءة والوطنية ويُحاسب الفاسد بلا رحمة. هذا هو الميثاق الوطني الحقيقي الذي ننشده، ميثاق يرفع راية العدالة والعمل والإنماء فوق كل راية مذهبية أو حزبية. فلنترك صالونات التناحر، ولندخل محراب البناء والسيادة الحقيقية التي تشمل كل ذرة تراب من لبنان.

https://hura7.com/?p=68430

الأكثر قراءة