الثلاثاء, أبريل 29, 2025
21.2 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

لبنان… من “سويسرا الشرق” إلى دولة على حافة الهاوية

الحرة بيروت

كان يُنظر إلى النموذج الاقتصادي اللبناني على أنه معجزة في الشرق الأوسط، حيث سجل الناتج المحلي الإجمالي للفرد 7800 دولار عام 2018 (البنك الدولي، 2024). إلّا أن هذا النموذج لم يعد سوى هيكل فارغ بحلول آذار/مارس 2025، بعد أن انهار تحت وطأة تناقضاته الداخلية. فقد أدت عقود من الفساد، والزبائنية الطائفية، والاعتماد المفرط على التحويلات الخارجية إلى إفلاس الدولة، مخلّفة اقتصادًا منهارًا وعملة متدهورة فقدت 98% من قيمتها، حيث بلغ سعر الصرف 120,000 ليرة للدولار الواحد (مصرف لبنان، 2023). في الوقت ذاته، يعيش 82% من السكان تحت خط الفقر (اليونيسف، 2024)، بينما تقلص الناتج المحلي الإجمالي إلى 31 مليار دولار فقط.

اقتصاد مُختطف: الطائفية كمعوق أساسي

يعاني الاقتصاد اللبناني من الطائفية السياسية التي ترسخت بعد اتفاق الطائف عام 1989، والذي وزع السلطة بين 18 طائفة دينية وفق نظام محاصصة جامد. نتيجة لذلك، أصبح الاقتصاد رهينة النخب الطائفية التي حولت المؤسسات العامة إلى إقطاعيات سياسية. فعلى سبيل المثال، يسيطر السنة على الموانئ، بينما يدير الشيعة قطاع الاتصالات، ويتحكم المسيحيون بملف الطاقة. هذه التقسيمات حرمت الدولة من مواردها وأغرقت القطاع العام في التوظيف العشوائي، حيث وظف القطاع الحكومي 300 ألف شخص، 30% منهم وظائف وهمية (البنك الدولي، 2024)، مما أدى إلى تضخم الرواتب الحكومية التي تستهلك 10% من الناتج المحلي الإجمالي.

اعتماد قاتل: اقتصاد مُستند إلى الخارج

ولطالما كان الاقتصاد اللبناني مدفوعًا بالتحويلات المالية من المغتربين الذين يبلغ عددهم 14 مليونًا مقابل 6 ملايين مقيم داخل البلاد. ففي عام 2018، ضخّ المغتربون نحو 7 مليارات دولار سنويًا، أي 13% من الناتج المحلي (اليونيسف، 2024)، إلى جانب إيرادات السياحة التي بلغت 2 مليون زائر في العام نفسه. لكن بعد 2019، تراجعت هذه التدفقات بنسبة 30%، وانخفض عدد السياح إلى 200 ألف زائر فقط بحلول 2024. كما أدت التوترات السياسية إلى تراجع الاستثمارات الخليجية، مما عمّق الأزمة في بلد يعتمد على الاستيراد بنسبة 80% لتغطية احتياجاته الأساسية.

الفساد المستشري: نزيف اقتصادي بلا علاج

الفساد هو سرطان الاقتصاد اللبناني، حيث يحتل لبنان المرتبة 154 من أصل 180 في مؤشر الشفافية العالمية لعام 2023. تُقدَّر الأموال المنهوبة سنويًا بحوالي 5 مليارات دولار قبل 2019، فيما تم نهب 500 مليون دولار من عائدات مرفأ بيروت وحده خلال أربع سنوات. قطاع الكهرباء مثال آخر على الفساد المستشري، إذ تتكبد مؤسسة كهرباء لبنان خسائر سنوية بقيمة 2 مليار دولار، ومع ذلك لا توفر إلا ساعتين من الكهرباء يوميًا، بينما يعتمد المواطنون على المولدات الخاصة بأسعار باهظة.

المصارف: انهيار الثقة في القطاع المالي

من جهتها، لطالما كانت المصارف اللبنانية الدعامة الأساسية للاقتصاد، حيث جذبت ودائع بقيمة 170 مليار دولار عبر تقديم فوائد مرتفعة تراوحت بين 8-10%. لكن مع اندلاع الأزمة المالية في 2019، تبيّن أن هذه السياسة لم تكن سوى مخطط هرمي انهار تحت وطأة الديون المتراكمة. قُدّرت الخسائر المصرفية بين 70 و100 مليار دولار، بينما فُرضت قيود صارمة على السحب، ما جعل المدخرات محجوزة قسرًا. وفي حين هُرّب 40 مليار دولار من أموال كبار المودعين قبل الانهيار، ظل صغار المودعين عاجزين عن التصرف بأموالهم.

الاقتصاد الموازي: الحل المؤقت الذي يعمّق الأزمة

مع انهيار الاقتصاد الرسمي، ازدهرت الأسواق الموازية التي تشكل اليوم 40% من الناتج المحلي الإجمالي. من تجارة العملات إلى المولدات الكهربائية، باتت هذه الأنشطة غير الرسمية الملاذ الأخير لكثير من اللبنانيين. إلا أن هذا الاقتصاد غير المنظم يحرم الدولة من إيرادات ضريبية تقدَّر بنحو 2 مليار دولار سنويًا، ويفاقم معدلات التضخم التي بلغت 180% في 2025.

على حافة الانهيار: سيناريوهات المستقبل القاتمة

في ظل غياب أي إصلاحات، يتجه لبنان نحو انهيار كامل. فالتضخم المتسارع قد يصل إلى 300% مع نهاية 2025، بينما قد تنفد احتياطات مصرف لبنان من النقد الأجنبي في 2026، ما سيؤدي إلى توقف استيراد المواد الأساسية. ومع بلوغ معدلات الفقر 90%، يواجه البلد خطر انفجار اجتماعي قد يتخذ شكل احتجاجات عنيفة أو حتى انهيار أمني شامل.

إن إنقاذ الاقتصاد اللبناني يتطلب قرارات جريئة، بدءًا من إلغاء المحاصصة الطائفية في الاقتصاد، وإصلاح النظام المصرفي عبر فرض اقتطاعات عادلة على كبار المودعين، وصولًا إلى إعادة هيكلة القطاعات الاستراتيجية مثل الكهرباء والاتصالات. كما أن إدخال الاقتصاد غير الرسمي ضمن الإطار القانوني يمكن أن يضيف مليارات الدولارات إلى خزينة الدولة. ولكن هذه الإصلاحات تصطدم بمقاومة شديدة من النخب السياسية والمصالح الطائفية.

لا شك في أن لبنان يواجه لحظة مصيرية: إما أن ينفذ إصلاحات حقيقية تؤسس لاقتصاد منتج ومستدام، أو أن يستمر في الانحدار نحو كارثة اجتماعية وسياسية. بين انهيار محتّم وفرصة ضئيلة للإنقاذ، يبقى السؤال: هل يمتلك لبنان الإرادة السياسية والاقتصادية للنهوض من أزمته، أم أن الانهيار بات قدرًا لا مفر منه؟

https://hura7.com/?p=47343

 

 

 

 

الأكثر قراءة