جريدة الحرة
زياد الصَّائغ*
قُدرة لبنان على الصُّمود تُدَرَّس في علوم السّياسة، والأنتروبولوجيا، والاجتِماع، والاقتِصاد، والأَمْن، والتّربية، والتّاريخ. لم يَشْهَد شعبٌ، ولا دَوْلة، هذا القَدْر من الاحتِلالات والوِصايات والاستِباحات، واستَطَاع الاستِمرار في شبه دَوْلة. بداعَةُ الفرد اللّبناني قائمةٌ في ذهابِه بعيدًا إلى مساحاتِ التأقلُم. التأقلُم، وعلى أهميّة ما يختزِنه من توفيرٍ مستدام للفُرَص، لكنّهُ مَقْتَلَةٌ لهذه الأخيرة في ما يُعْنى بإمكانيّة السّماح بانتقاله إلى حالةٍ ثابتة. بين الهُدوء والاستِقرار بونٌ شاسِع. هذا البَوْن يستأهِلُ مقاربة مفاهيميَّة أبعد من تِلك الشّعاراتيّة المستهلكة، وكأنّ الهدوء مَغْناةٌ والاستِقرار سراب.
ما سبق ليس تنظيرًا في حالةِ لبنان، بل اعترافًا بانخراطِ الاستبلشمنت فيه بتقديس الستاتيكو، أو قُلْ فَهْمِ الستاتيكو على أنّه رُكْنٌ مؤسّس في إمكانيّة التّغيير التّراكميّ. إمكانيّة التّغيير التّراكميّ متوفّرةٌ في ديناميّاتٍ ثلاث. الوطنيّة، والاغترابيّة، والدّيبلوماسيّة. تقتضي هذه الدّيناميّات تدوين سرديّة جديدة في ما يجِب أن يكون عليه لُبْنان الدّولة على مدى الخمسين عامًا المقبلة. ما عادَ من المقبول الاستِنقاعُ في حيّز التّكتيك. تبنّي استراتيجيّة أمن قومي مرفُودة بسياسةِ أمنٍ وطنيّ باتَ من الأولويّة الجوهريّة.
إستراتيجيّة الأمن القومي لا تتبلور سوى بالاستناد إلى إعادَة الاعتبار للمقوّمات الكيانيّة التي طَبَعت الشّخصية اللّبنانيّة الدّولتيّة. في هذه المقوّمات الكيانيّة بدت الحريّة، مع التنوّع واللّيبراليّة، سِماتٍ غير قابلةٍ للجدل. في هذه السِّمات برز بجلاءٍ الحيادُ الإيجابيّ رافِعَةً احتضنها الميثاق الوطني مع صيغة المُشْتَرك. الصّيغة الميثاقيّة نموذجٌ حضاريّ عبّر عنه اتّفاق الطّائف والدّستور اللّبناني بكامِل مندرجاتِهما. الإشكاليّة تكمن في الانزياحِ المقصود عن هذه المندرجات من ناحية، أو تسخيرها بخُبْثٍ في مقاصد شموليّةٍ أو تفتيتيّة من ناحيةٍ أخرى. لبنان منصّة تصديرٍ لفِعْل الوَحْدة في التنوّع. ساحة تفاعلٍ بين التّمايزات بما هي تتطلّع، على الرّغم من تمايزُها، إلى المصلحة الوطنيّة العُليَا والخير العامّ. ما سَبَق لا يأخُذ مداه العملانيّ إنْ لم يتمظهر بمنظومةٍ أخلاقيّة بِرُكْنَي نظافة الكفّ والانتماء الوطنيّ الصافيّ. وَحْدَها الأخلاق تصونُ الدّستور مع الأمن القومي-الوطنيّ.
الأخْلاقُ نقيضُ الخروج عن الهويّة الوطنيّة الجامِعة. نقيضُ تعميمِ الفساد وقونَنتِه. نقيضُ الولاء العابر للحُدود. نقيضُ استِنفار العصبيّات. نقيضُ كلِّ ما يجري في الإقليم. الإقليمُ زاخرٌ بمغامراتِ التطرّف. لُبْنان تأسّس على الاعتِدال. مُغامَرات التطرّف بأحلافها الموضوعيّة قيد النّهايات. الفُرْصَة مؤاتِية لِعَوْدة لبنان إلى لُبنانيّته. الخشية أن يُغْرينا مجدّدًا ذاك الهدوء بالستاتيكو. حينها نَخْسرُ الفرصة الأخيرة. في عِلْم السّياسة حقائق الفُرْصة الأخيرة ثابتة، خصوصًا في دَوْلةٍ انتُهِكَت شرعيّتها ومناعتُها، بفِعل تورّط من كانوا مؤتمنين على هذه الشرعيّة والمناعة، تورّطهم بمشاريع مشبوهة. نهاياتُ التطرّف في الإقليم تُنبِىءُ باستِنهاض لبنان. لبنان الرّسالة. لبنان المواطنة، والسّيادة، والحوكمة الرّشيدة.
*باحث في الشؤون الجيو-سياسيّة