وكالات ـ يشكل قرار المحكمة الإدارية في باريس الخميس والقاضي بإلغاء قرارات الرفض الصادرة عن وزارة الخارجية الفرنسية بشأن طلبات إعادة النساء الفرنسيات الجهاديات وأطفالهن المحتجزين في مخيمات بسوريا خطوة جديدة نحو إخضاع قضية الإعادة للقضاء، بعد أن كانت رهينة للاعتبارات السياسية ولمنطق الدولة دون أي رقابة قضائية. فبقاء وضع الأطفال خاصة، إلى جانب أمهاتهم، معلقاً ودون أفق واضح يشكل مشكلة أمنية وإنسانية، غير أن عودتهم إلى فرنسا تطرح هي الأخرى تساؤلات بشأن مستقبلهم وآليات مواكبتهم سعياً لاندماج كامل داخل المجتمع.
في قرار غير مسبوق قد يشكل نقطة تحول في السياسة الفرنسية التي اتسمت لفترة طويلة بنهج حذر تجاه عمليات الإعادة، أصدرت المحكمة الإدارية في باريس الخميس 13 مارس/آذار حكما يقضي بإلغاء قرارات الرفض الصادرة عن وزارة الخارجية الفرنسية بشأن طلبات إعادة النساء الفرنسيات الجهاديات وأطفالهن المحتجزين في المخيمات الكردية الواقعة شمال شرق سوريا.
القرار القضائي جاء نتاجاً لمعركة طويلة يخوضها أقارب الأشخاص المعنيين، إذ تم اللجوء إلى المحكمة من قبل محامي ثماني نساء لديهن 29 طفلاً تتراوح أعمارهم بين 6 و15 عاماً. ووصفت المحامية ماري دوزيه، التي تمثل هؤلاء النساء، القرار بأنه “تاريخي”.
يعد قرار المحكمة الإدارية نتيجة مباشرة لإدانة المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (CEDH) لفرنسا في 14 سبتمبر/أيلول 2022 في ستراسبورغ. فقد طلبت الهيئة القضائية من فرنسا تقديم مبررات فردية لكل رفض وإحداث هيئة مستقلة للطعن في حال رفض طلبات الإعادة. ونظراً لعدم تقديم الوزارة مبررات كافية، أمرتها المحكمة الإدارية بإعادة النظر في هذه الطلبات خلال مهلة شهرين.
هذا الأمر يمثل خطوة جديدة نحو إخضاع قضية الإعادة للقضاء، بعد أن كانت حبيسة الاعتبارات السياسية ومنطق الدولة دون أي رقابة قضائية.
المحامية دوزيه أوضحت أن الحكومة الفرنسية لم تكن تستند في قراراتها برفض الترحيل إلى أي أساس قانوني، إذ كانت تعتبر، ولا تزال، أن توجهها يمثل عملاً حكومياً لا يقبل الطعن أمام المحاكم. لذلك، لم تكن تبرر رفض الترحيل بأي دعامة قانونية، بل لطالما قالت إنها تعتمد على حجج واقعية، لكنها في الواقع كانت خاطئة أو تتناقض مع الحقيقة. وبالتالي، فإن حكم الإدانة الصادر عن المحكمة الأوروبية في عام 2021 اعتبر أن قرارات الرفض كانت تعسفية. وعلى الرغم من ذلك، كانت فرنسا حتى ذلك الحين ترفض تطبيقه.
تشرح دوزيه أن “الحكم يتضمن نقطتين أساسيتين. أولاهما، إلزام المحكمة الأوروبية فرنسا بتبرير قرارات الرفض، ليس بأي طريقة، ولكن مع أخذ مصلحة الطفل في الاعتبار، وكذلك وضعه الهش. ثم، والأهم مما سبق، وجوب ضمان إمكانية الطعن في القرارات”.
نحو 240 جهادياً فرنسياً محتجزاً
تُعد فرنسا الدولة الغربية التي لديها أكبر عدد من الجهاديين المحتجزين في سوريا، حيث يوجد وفقاً لدوزيه أكثر من 70 رجلاً وحوالى 50 امرأة و120 طفلاً. وفي حين لا يثير مصير الرجال أي جدل، بالإجماع على اعتبارهم جميعاً مقاتلين، فإن وضع النساء والأطفال أكثر تعقيداً وإثارة للجدل، لا سيما بسبب ظروف احتجاز الأطفال في مخيمات مفتوحة حيث ينامون تحت الخيام صيفاً وشتاء، دون تعليم أو رعاية طبية مناسبة، وذلك منذ سقوط آخر معاقل تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا عام 2019. فهؤلاء الأطفال تم أخذهم إما قسراً من فرنسا من قبل والديهم، أو وُلدوا في سوريا.
التداعيات الأمنية والإنسانية
على عكس بعض الدول الأوروبية المجاورة مثل ألمانيا وبلجيكا، التي نظمت عمليات إعادة واسعة النطاق، تبنت فرنسا نهجاً صارماً في هذا الملف. إذ تخشى السلطات الفرنسية من أن بعض النساء، حتى وإن كن محتجزات، مازلن يحملن أفكاراً متطرفة، وقد يشكلن تهديداً على الأمن الوطني في حال إعادتهن. كما تبرر باريس موقفها بأن هؤلاء النساء يجب أن يخضعن للمحاكمة في سوريا أو العراق، وهو ما يثير إشكاليات قانونية نظراً لعدم توفر إطار قانوني واضح لمحاكمتهن هناك.
بقاء وضع هؤلاء الأطفال معلقاً ودون أفق واضح يطرح مشكلة أمنية وإنسانية، خاصة مع تقدمهم في العمر نحو المراهقة أو سن الرشد. فمن بين الذين شملهم القرار القضائي، يوجد ستة قُصّر وشباب محتجزين في مركز إعادة تأهيل “أوركيش” المخصص للفتيان، حيث يتم فصلهم عن أمهاتهم وإخوتهم عند بلوغهم سن المراهقة.
العودة بأي ثمن
بالنظر إلى الموضوع من زاوية الالتزام الأخلاقي، تنبه المحامية دوزيه إلى ضرورة التذكير بـ”إدانة فرنسا من قبل لجنة حقوق الطفل الدولية لانتهاكها اتفاقية حقوق الطفل الدولية، وإدانتها أيضاً من قبل لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة لانتهاكها اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب في هذه القضية. وبالتالي، بالإضافة إلى الالتزام الأخلاقي، بما أن فرنسا قد وقعت على هذه الالتزامات الدولية، فهي ملزمة باحترامها”.
حسب دوزيه، فإن قضية الترافع لصالح إعادة النساء المحتجزات وأطفالهن باتت تحظى بدعم شعبي متزايد، بل إن “الكثير من المواطنين يجدون أن من المرفوض بشكل خاص أن يتحمل الأطفال مسؤولية جريمة آبائهم في بلد مثل بلدنا. لأن هذه هي المشكلة الأساسية”.
تمضي المتحدثة موضحة: “منذ ست سنوات، كان هؤلاء الأطفال سجناء في مناطق الحرب. أطفال أبرياء لم يفعلوا شيئاً، ولم يختاروا أن يولدوا في سوريا أو أن يتم أخذهم إليها. وهم في الواقع الضحايا الرئيسيون لاختيارات آبائهم. لذلك، أنا أعلم على الأقل أن هذه القضية تحشد دعم المزيد من الناس”.
ماذا بعد العودة إلى الوطن؟
تؤوي المخيمات الواقعة تحت سيطرة الأكراد في شمال شرق سوريا 12 ألف طفل وامرأة من عائلات الجهاديين الأجانب، غالبيتهم يقطنون في مخيم الهول المكتظ.
ويطالب الأكراد الدول المعنية باستعادة مواطنيها المحتجزين لديهم أو إنشاء محكمة دولية لمحاكمة الجهاديين. إلا أن غالبية الدول، وخصوصاً الأوروبية، تصر على عدم استعادة مواطنيها. وثمة دول أوروبية عدة، بينها فرنسا، اكتفت باستعادة عدد من الأطفال اليتامى من أبناء الجهاديين.
في فرنسا، وفي حال إعادة هؤلاء النساء، تتوقع المحامية ماري دوزيه أن يتم فورياً وضعهن قيد التحقيق واحتجازهن احتياطياً، نظراً لأنهن تحت طائلة أمر اعتقال دولي بتهمة الانتماء إلى جماعة إجرامية ذات طابع إرهابي. وتوضح دوزيه: “أما الأطفال، فيتم التعامل معهم من قبل مساعدة اجتماعية خاصة، إذ يتم وضعهم في البداية لدى أسر حاضنة أو بدور إيواء، ثم تتم إعادة تقييم الوضع بعد إجراء التحقيقات لتحديد مع أي فرد من أفراد الأسرة سيتم استقبالهم بشكل أفضل”.
على الصعيد القضائي، في ما يتعلق بالنساء، فإن الاحتجاز حسب دوزيه “يمثل مساراً مهماً إلى حد ما”، إذ يوجد في فرنسا الآن سياق لتقييم التطرف، ثم سياق للتعامل مع التطرف، “إذ يقوم مهنيون، سواء كانوا مختصين في المجال الثقافي أو مؤطرين أو أطباء نفسيين، بإجراء محادثات طويلة مع النساء المستهدفات لتقييم حالتهن النفسية، وكذلك علاقتهن بالدين، للتحقق مما إذا كن لا يزلن يتبنين أفكاراً قد تغذي أيديولوجيا عنيفة. لذلك، هناك عمل حقيقي يتم في السجون، مع متابعة نفسية عميقة”.
أما بالنسبة للأطفال، فتتم متابعة وضعهن نفسياً من قبل مختصين. “جميعهم بالطبع يعانون من الصدمات بسبب ما مروا به في المخيمات، ولكن أحياناً أيضاً بسبب ما قد يكونوا قد شاهدوه قبل المخيمات، خاصة في باروس”.
رفض متكرر رغم الطعون القضائية
طوال عام 2024، رفضت وزارة الخارجية الاستجابة لأي مطالبات بإعادة الجهاديين، متذرعة أحياناً بعدم وجود موافقة صريحة من بعض الأمهات، أو بالصعوبات الأمنية لتنفيذ مثل هذه العمليات. وبعد التماس المكلفة بالدفاع عن الحقوق كلير هيدون، قامت المحامية ماري دوزيه، بدعم من منظمة محامون بلا حدود، برفع دعاوى أمام المحكمة الإدارية في باريس للطعن في سبعة قرارات ضمنية برفض الإعادة وقرارين واضحين برفض الطلبات.
السند القانوني
في ما يتعلق بالقرارات الضمنية، أكدت المحكمة الإدارية في حكمها أنها مختصة للبت في “قرار غير منفصل عن إدارة العلاقات الدولية لفرنسا” – أي أنه عمل حكومي نظرياً خارج نطاق القضاء الإداري – وذلك استناداً إلى قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لعام 2022، الذي لا يفرض حقاً تلقائياً في الإعادة، لكنه يلزم السلطات بتقديم مبررات قانونية وإتاحة وسيلة للطعن.
أما في ما يخص القرارات الواضحة برفض الإعادة، فقد لاحظ القاضي الإداري أن “وزير أوروبا والشؤون الخارجية لم يقدم أي وثيقة داعمة لادعاءاته”. وقد تبنت المحكمة موقف المقررة العامة، التي أيدت الطعون، مشيرة خلال جلسة شباط/فبراير إلى “الخطر الاستثنائي الذي يهدد حياة القُصّر”.
مصير الرجال الجهاديين
بالنسبة للرجال، اعتبرت محكمة الاستئناف الإدارية في باريس في بداية مارس/آذار أنها غير مختصة للنظر في طلبات إعادة ثلاثة فرنسيين قاتلوا في سوريا واحتجزتهم القوات الكردية، بحجة أن وضعهم لا يندرج ضمن “ظروف استثنائية”.