جريدة الحرة ـ بيروت
في النموذج اللبناني، تُصنع الأزمات، لا لتُنتج رجال دولة، بل لتُعيد إنتاج شبكة سلطة تحترف العبث بالمفاهيم: تجعل من “الحاكم” موظفًا لدى المصرف، ومن “القاضي” مدينًا لخصمه، ومن “المصرفي” شريكًا في السلطة التنفيذية والتشريعية والمالية على حدّ سواء. ما نشهده ليس أزمة نقدية فحسب، بل بنية مافيوية مكتملة الأركان تتحصّن بالقانون، وتعتاش على تقويضه.
تعيينات حاكمية المصرف: التوريث الطائفي على أنقاض الكفاءة
حين يُعيّن حاكم لمصرف لبنان، لا تُحتسب كفاءته أو سجله المالي، بل يُقاس “هامش طاعته” للتحالف المصرفي ـ السياسي. الحاكم الجديد، كريم سعيد، أتى من داخل المنظومة، لا من خارجها. تم تعيينه رغم افتقاره إلى المواصفات التي تنص عليها المعايير الدولية لمنصب بهذه الحساسية، في استهتار مطلق بما تبقى من هيبة نقدية ومؤسسية للدولة. أما حصة الطوائف فثُبّتت سلفًا، وكأننا أمام توزيع غنائم لا تشكيل مؤسسات.
في الدول ذات المصارف المستقلة، يُختار الحاكم بمسار شفاف، يُشارك فيه البرلمان ومجالس الخبراء، وتُرفع تقاريره للرقابة الشعبية والقضائية. أما في لبنان، فالحاكم يُصاغ في المطبخ السياسي ـ المالي المغلق، وتُمنح له صكوك الولاء لا خطط العمل.
مافيا المصارف: شريك السلطة لا خادم الاقتصاد
المصارف اللبنانية، التي من المفترض أن تكون وسيطًا بين رأس المال والإنتاج، تحوّلت إلى قوة فوق الدولة. لا هي خاضعة للمحاسبة، ولا هي ملتزمة بالعقود. صادرَت ودائع الناس وشرعنت الجريمة بحجة “الظروف”، ثم فتحت خطوط التفاوض مع كبار المودعين لشراء صمتهم، وأدارت ظهرها لصغار المودعين الذين تُستخدم مظلوميتهم كشعار في الحملات الإعلامية لا أكثر.
تحالفت هذه المصارف مع الطبقة السياسية لتأبيد نظام الريع. موّلت الانتخابات، ضغطت على القضاء، واستثمرت في تشويه أي محاولة للمحاسبة عبر ماكينة إعلامية مترامية. وهي اليوم، تُعيد تموضعها عبر إعادة هيكلة شكلية تضمن استمرار النفوذ، لا تصحيح المسار.
قضاءٌ مُرتهن ومشلول: حين يصبح القاضي مدينًا للمصرف
من أبرز مظاهر الانحلال المؤسسي، أنّ القضاء نفسه غارق في تضارب المصالح. إذ حصل مئات القضاة على قروض مدعومة من المصارف، بعضها جرى شطبه أو التلكؤ في تحصيله بعد الانهيار. كيف يمكن لقاضٍ أن يُصدر حكمًا ضد مصرف هو نفسه مدين له؟ هذه ليست مجرّد مسألة أخلاقية، بل فضيحة قانونية تمسّ جوهر العدالة.
لذلك، ليس مستغربًا أن نرى عشرات الدعاوى المقدمة ضد المصارف تُحفظ، أو تُماطل لسنوات، أو يُبتّ فيها بما يخالف مبادئ العدالة والمساواة. حتى حين يصدر حكم قضائي واضح بردّ الوديعة، تتدخل السلطة السياسية ـ عبر تعاميم مصرف لبنان ـ لتفريغه من مضمونه بذريعة “المصلحة العامة”.
هندسة الإفلات من العقاب: من يكتب القانون يكتب النجاة لنفسه
الدولة في لبنان لا تكتفي بعدم مساءلة المصارف، بل تُعيد صياغة القوانين بما يضمن تحصينها. التعديلات المقترحة على قانون السرية المصرفية، مشاريع الكابيتال كونترول، وهيكلية توزيع الخسائر، كلها صُمّمت لهدف واحد: منع المحاسبة، وتأبيد الإفلات من العقاب.
حتى “اللجان النيابية” المعنية بملف المودعين باتت منصة لتقاسم الحصص لا تحقيق العدالة. النواب، معظمهم ممّن استفادوا من “الهندسات المالية”، يتقنون التباكي أمام الإعلام، ثم يضعون العراقيل داخل اللجان التشريعية حين تقترب أي صيغة من مساءلة حقيقية.
في غياب الحلول: نظام هشّ يحكمه الدولار الموازي
ما يُسمى “منصات تسعير الدولار” ليس سوى تكتيك للتمويه، يغطي على الحقيقة المرة: لا وجود لسياسة نقدية حقيقية في لبنان، بل سياسة “تدبير يومي”، تُدار عبر تطبيقات الهواتف والمكاتب السوداء.
الحاكم الجديد، كما سابقه، لا يملك خطة اقتصادية شاملة، بل يُدير الانهيار بمنطق التسويف والتقسيط، والرهان على الوقت. أما المصارف، فتعيد تموضعها عبر خصخصة الأصول العامة، ومشاريع وهمية لتعويض الودائع، أشبه بكمائن قانونية أكثر منها حلولًا اقتصادية.
المافيا لا تُحاسب نفسها
لن يُكتب التعافي للبنان ما لم يُفكّك تحالف المصرف ـ الدولة، وتُستعاد المبادئ البديهية للعدالة المالية: أن كل ليرة مودعة هي دين واجب السداد، وأن من تواطأ على حجزها، أو موّل تهريبها، أو عطّل المحاسبة بشأنها، يجب أن يُحاكم لا أن يُرقّى.
المطلوب ليس “إعادة هيكلة” المصارف، بل إعادة هيكلة الشرعية نفسها. المطلوب ليس “إصلاح النظام”، بل اقتلاع المنظومة. فالمشكلة لم تكن يومًا اقتصادية فحسب، بل جرمية بنيوية، نُفّذت على مدى سنوات بحماية الدستور المسروق، والقانون الممسوخ، والقضاء المُروَّض، والإعلام المشتَرى.
وما لم يُدقّ جرس المساءلة في أعلى الهرم، فإن الحديث عن “استعادة الثقة” سيبقى نكتة سوداء على أنقاض بلد يُديره تحالف لا يعرف إلا “النهب باسم الدولة”.


