الحرة بيروت ـ تقرير خاص
يُعدّ المشهد اللبناني الحالي انعكاساً واضحاً لتراكم الأزمات السياسية والاقتصادية والإنسانية، حيثُ تأتي الزيارات المتكررة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتعكس الجهود الدولية الحثيثة لمساعدة لبنان على الخروج من محنته المتفاقمة. ورغم التوترات الداخلية والتحديات الجمّة، تُبرز هذه الزيارات أهمية الدعم الدولي في تعزيز الإصلاحات المطلوبة ومواجهة الفساد المستشري.
الزيارة الثالثة لماكرون إلى لبنان يوم أمس، والتي ركّزت على تفقّد الأعمال الترميمية في منطقة الجميزة المتضررة جرّاء انفجار مرفأ بيروت، حملت معها رسائل متعددة، لكنها لم تخلُ من الجدل والملاحظات حول الشفافية والمحاسبة. فلم يتم التحقق من الوضع القانوني للمؤسسات التي زارها، وهو أمر يثير التساؤلات حول جدوى المساعدات وآلية صرفها، خصوصاً في ظل غياب أي زيارات للمنازل المتضررة واستفتاء السكان حول استخدام المساعدات.
وفي الوقت الذي تستمر فيه الجهود الدولية لدعم لبنان، تتزايد المخاوف من تحوّل المساعدات إلى وقود لدوامة الفساد المالي. لذا تتطلب هذه المرحلة الدقيقة من السلطات اللبنانية والأوروبية تعاوناً جدياً في تطبيق قوانين مكافحة تبييض الأموال، وتعزيز الشفافية في صرف المساعدات، لضمان وصولها إلى مستحقيها الفعليين.
بالعودة إلى ماكرون، فهو زار لبنان لأول مرة في 6 آب/أغسطس 2020، في زيارة مفاجئة جاءت بعد يومين من انفجار مرفأ بيروت، الذي يُعدّ من أقوى الانفجارات غير النووية في التاريخ. خلال زيارته، تجوّل في الأحياء المتضررة، التقى بمسؤولين لبنانيين، ودعا إلى تنفيذ إصلاحات عاجلة. لاقت هذه الزيارة ترحيباً واسعاً من الشعب اللبناني، الذي رأى في الدعم الفرنسي بادرة إيجابية وسط أزمات إنسانية حادة أثارت غضباً شعبياً ضد السلطات اللبنانية المتهمة بالإهمال والفساد. سلطات ساهمت في تسهيل فرار أبرز المتهمين بتفجير المرفأ إلى خارج البلاد.
قام ماكرون بزيارة ثانية إلى لبنان في 1 أيلول/سبتمبر 2020 بهدف تعزيز الإصلاحات السياسية وتوزيع المساعدات. ورغم هذه الجهود، لم ينجح في تحقيق تأثير إيجابي على الوضع المالي المتدهور. فمنذ اندلاع الأزمة المالية في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، تدهور سعر صرف الدولار في السوق السوداء إلى 7250 ليرة لبنانية، بعدما كان السعر الرسمي 1507.50 ليرة. اليوم، تجاوز سعر الدولار الواحد 98,700 ليرة لبنانية، ما أثار تساؤلات حول احتمال سرقة المساعدات الموجهة إلى لبنان وعدم تخصيصها لأغراض الترميم، بل صرفها في السوق المحلي. هذه الشبهات تطرح ضرورة إدراج المساعدات الأوروبية في التحقيقات القضائية المفتوحة بشأن جرائم تبييض الأموال وتهريبها. إضافة إلى غياب الشفافية في هوية المؤسسات السياحية التي تلقّت المساعدات ومدى قانونيتها.
تكرر المشهد أمس، مع الزيارة الثالثة لماكرون إلى لبنان، حيث خصص عدة ساعات لتفقّد منطقة الجميزة المتضررة جراء انفجار المرفأ في 4 آب/أغسطس 2020. إلّا أن الزيارة لم تخلُ من بعض الملاحظات:
- لم يتمّ التحقق من الوضع القانوني للمطاعم التي زارها ماكرون، خاصة من ناحية التراخيص السياحية المطلوبة، رغم مرافقة محافظ بيروت القاضي مروان عبود، الذي يخضع للتحقيق من قبل وزارة الداخلية بشأن تغطيته لأعمال مؤسسات سياحية غير مرخصة واستيلاء شركات تسهيل الوقوف (Valet Parking) على المواقف العامة.
- لم تشمل الزيارة أي منازل متضررة أو استفتاء السكان حول آلية صرف المساعدات، بالتزامن مع انتشار يافطات على شرفات المنازل تندد بإزالة المخالفات.
- لم يتم التطرق إلى تحويل محيط مرفأ بيروت إلى بؤرة أمنية خطيرة تنشط فيها العصابات الإجرامية، حيث يسقط العديد من الضحايا بشكل مستمر. من بين الحوادث المأساوية مقتل دبلوماسية بريطانية في 17 كانون الأول/ديسمبر 2017 بعد تعرضها للتحرش أمام إحدى المؤسسات السياحية، وسقوط تسعة ضحايا في انفجار مطعم غير مرخص بتاريخ 30 نيسان/أبريل 2024.
حدّد القانون اللبناني رقم 44 الصادر في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 “مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب” آليات فرض العقوبات على من يشارك في أعمال غير مشروعة، لا سيما الفساد والرشوة واستغلال النفوذ والاختلاس والتهرب الضريبي.
المادة 6 من اتفاقية الأمم المتحدة ضد الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية تعرّف غسيل الأموال كالتالي:
- تحويل أو نقل الممتلكات مع العلم بأنها من عائدات جريمة بغرض إخفائها أو تمويه مصدرها غير المشروع أو مساعدة أي شخص يشارك في ارتكاب الجريمة للتهرب من العواقب القانونية.
- إخفاء أو تمويه الطبيعة الحقيقية أو المصدر أو الموقع أو التصرف أو الحركة أو الملكية أو الحقوق المتعلقة بالممتلكات مع العلم بأنها عائدات جريمة.
توصيات مجموعة العمل المالي (FATF) تحث الدول على إنشاء وحدات استخبارات مالية لتلقي وتحليل المعلومات المتعلقة بغسل الأموال وتمويل الإرهاب. تشدد التوصيات على أهمية تبادل المعلومات بين الدول للتعاون في التحقيقات ومحاكمتها، كما تفرض على المؤسسات المالية التأكد من دقة المعلومات المتعلقة بعمليات تحويل الأموال ومراقبة العمليات المشبوهة.
تهدف توجيهات الاتحاد الأوروبي لمكافحة غسيل الأموال (EU AMLDs) إلى منع المجرمين من إخفاء الأموال غير المشروعة من خلال طلب معلومات دقيقة عن مصادر الأموال وتسهيل تتبعها في النظام المالي، مع تزويد الجهات المعنية بالمعلومات اللازمة للكشف عن الجرائم وملاحقة مرتكبيها.
تأتي هذه التطورات بعد انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية اللبنانية وتكليف القاضي نواف سلام بتشكيل الحكومة، ما يعكس بصيص أمل في طريق الإصلاح. إلا أن النجاح في هذا المسار يتطلب جهوداً مشتركة بين جميع الأطراف المعنية، لضمان تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية التي ينشدها اللبنانيون، ومحاربة المافيات ومكافحة تبييض الأموال.
يبقى السؤال حول مدى وعي السلطات الأوروبية، بما فيها المفوضية الأوروبية (EC) والهيئة المصرفية الأوروبية (EBA) والبنك المركزي الأوروبي (ECB) ووكالة التعاون في مجال إنفاذ القانون (Europol) ووكالة التعاون القضائي الجنائي (Eurojust) ووحدات الاستخبارات المالية (FIUs)، بالأعمال الجارية في لبنان، خاصة مع التحضير لمؤتمر دولي جديد لدعم لبنان.
من جهتهم، يطرح الخبراء تساؤلات حول إمكانية ضبط الأموال غير المشروعة في لبنان والاستغناء عن طلب مساعدات وقروض لدعم دولة تعاني من تفشي الفساد.
في ختام هذا المشهد المعقّد، يبقى التساؤل مطروحاً حول مدى قدرة السلطات اللبنانية والدولية على ضبط الفساد المالي وتحقيق الشفافية في إدارة المساعدات. تحقيق هذا الهدف يتطلب إرادة سياسية صادقة وتعاوناً دولياً فعّالاً لضمان استغلال الفرص المتاحة في دعم لبنان نحو مستقبل أفضل. الأمل في استعادة الثقة بين الشعب اللبناني والمؤسسات الحكومية لا يزال قائماً، شريطة الالتزام الحقيقي بمكافحة الفساد وبناء دولة القانون والمؤسسات.