الحرة بيروت ـ بقلم: ماهر أبو شقرا
سوف يكون إغفال واقع وجود أقليات إثنية أو طائفية ذات هواجس وجودية في المشرق خطأ جسيماً. وإذا كانت السلطات القمعية تاريخياً قد استغلت هواجس الأقليات في مشاريع سياسية قمعية تضطهد المجتمع ولا تحمي الأقليات، فهذا لا يعني أن هذه الأقليات هي غير موجودة، أو أن هواجسها هي محض أوهام. إنّ الأقليات في المشرق قد دفعت ثمناً باهظاً وحقيقياً عبر التاريخ، والتغيرات الديموغرافية وأنماط النزوح والهجرة تشهد على واقعها وهواجسها في هذا المشرق.
لقد لجأت الأحزاب اليسارية والتقدمية والليبرالية تاريخياً إلى القفز فوق هواجس الأقليات الإثنية والطائفية، وذلك عبر طرح مشاريع سياسية مرتكزة على فكرة الدولة المدنية، دولة المواطنة وحكم القانون والمؤسسات والعلمنة. هذه الطروحات تصبح طروحات بعيدة عن الواقع في حال هي أغفلت هواجس الهويات الطائفية والثقافية والفكرية. فهذه الهويات وهواجسها إنّما هي واقع لا يمكن إنكاره. ذلك لأن المجتمعات تتحدّد وتتشكل كما هي ترى نفسها، وليس كما نراها نحن.
أخيراً، أضيف نقطة أساسية هي أنّ الأقليات لا تتصرّف كأقليات إلّا عندما تتصرّف الأكثرية باعتبارها أكثرية. أما إذا الأكثرية لم تستغلّ أرجحيتها العددية، ولم تتصرّف كأكثرية، ولم تتصرّف كجماعة بل كأفراد ضمن نظام سياسي مدني علماني، فإنّ الأقلية ستقوم بالمثل، وسيتمسّك أفرادها بمواطنيتهم، وبانتمائهم لدولة تؤمن لهم المساواة وتكافؤ الفرص، بعيداً عن منطق الجماعة الطائفية.
وهذا الأمر ينطبق على الواقع السوري اليوم. فحتى لو أنّنا نرى الشعب السوري يتشكّل من أفراد ينبغي أن تجمعهم دولة المواطنة والقانون المدني والمؤسسات، لكن إذا قرّرت الأكثرية العربية السنّية أن تتبنى خياراً إسلامياً، فهذا يعني أنها تنظر لنفسها كأكثرية داخل سوريا، كأكثرية تريد أن تفرض خياراتها على الجميع. عندها سوف ترى الأقلية نفسها كأقلية، بغض النظر عن كيف نراها نحن.
تلجأ الإدارة السورية الحالية، وهي إدارة ثورية غير منتخبة، إلى طمأنة الأقليات الطائفية والإثنية بأن أحداً لن يتعرّض لها، وأن كرامتها محفوظة، وأنّ حقّها بالوجود سوف لن ينتقص منه أحد. غير أن هذه التطمينات غير كافية، ولا تطمئن الأقليات في سوريا، وفي هذا المشرق عموماً. كما أنّ هذا القلق من الممكن أن ينتقل إلينا في لبنان. ثمّ إنّ كلام الشرع عن أن الانتخابات في سوريا قد لا تحصل قبل ثلاث أو أربع سنوات يثير مخاوف جدّية حول ما إذا كان الهدف هو المماطلة إلى حين إحكام قبضته على سوريا بالكامل.
طبعاً هذا لا يعني أنّ نظام الأسد قد حمى الأقليات في سوريا، بل على العكس من ذلك تماماً؛ كذلك أن نظام العشائر الطائفية لم يحمِ الأقليات في لبنان نهائياً.
إنّ ضمان عدم التعرض للأقليات، الذي تتحدث عنه القيادة الثورية في سوريا الجديدة، والسماح لهم بأن يعيشوا بكرامة وأن يمارسوا عاداتهم وطقوسهم، هو أضعف الإيمان.
أمّا المطلوب فهو المساواة الكاملة بين جميع المواطنين السوريين، وأن لا يعيش أبناء الأقليات كأهل ذمة وكمواطنين من الدرجة الثانية.
ما تحتاجه سوريا اليوم هو دستور يقطع الطريق على إمكانية قيام حكم إسلامي أو نظام يستمدّ مبادئه من الشريعة الإسلامية. ما تحتاجه سوريا اليوم هو دستور مدني علماني بالكامل، يفصل الدين عن السياسة فصلاً لا لبس فيه، وإلا فالفيدرالية هي الخيار الملائم لسوريا الجديدة.