الحرة بيروت ـ بقلم: ماهر أبو شقرا
لبنان لا يحتمل أن تتسلّح أي طائفة من طوائفه دون الأخرى. وإذا تسلّح الجميع فسوف يعود شبح الحرب الداخليّة. فلا بدّ إذن من حصر قرار الحرب والسلم، وكلّ السلاح في لبنان، بيد الدولة اللبنانية. إنّما تبقى المسألة الأهمّ: كيف نحمي لبنان من الأهوال الأمنية المحيطة به؟ بدءاً من الخطر الإسرائيلي الذي يقضّ مضاجع أهالي قرى جبل عامل والعرقوب وجبل الشيخ، وصولاً إلى الخطر الذي قد يأتي من الحدود الشرقية والشمالية المفتوحة على داخل سوريّ قلق.
لقد أثبتت الفترة الزمنيّة الممتدّة من العام 2000 حتى العام 2024 أنّ ميليشيا دينية، مرتبطة سياسياً وعقائدياً واقتصادياً ببلد خارجي، لا تؤتمن على حماية لبنان. فوجود هذه الميليشيا يضرب ثلاثية الأرض والمجتمع والدولة التي بدونها لا يقوم وطن ولا تنشأ أمّة، كما ينتهك سيادة الدولة على أرضها وأمنها وقرارها السياسي. ومع التناقض المصلحي بين وجود هكذا ميليشيا وقيام “الدولة القادرة” في لبنان، أصبح من مصلحة تلك الميليشيا أن تضعف الدولة لكي يبقى لبنان ساحة مستباحة ومنصّة تقدر الميليشيا الدينيّة على استخدامها خدمة لمشاريع عابرة للنطاق الجغرافي اللبناني. بينما على أرض الواقع، فإنّ مجرّد التفكير بحماية لبنان وأرضه ومجتمعه، من دون دولة قادرة وقوية ومزدهرة، هو محض تهلوس وأوهام. كما وأنّ وجود هكذا ميليشيا يهدّد وحدة المجتمع اللبناني، ويسلخ جزءاً من هذا المجتمع ويلحقه بمشروع خارجي عابر لحدود لبنان. إنّ هذه العوامل أدّت في النهاية إلى توغّل العدو في أرضنا، وإخضاع أجزاء منها بالنار، والسيطرة على بعض التلال فيها. وهكذا ضُربت ثلاثية الأرض والمجتمع والدولة في لبنان.
بالعودة إلى المسألة الأساس: كيف نحمي لبنان من الأهوال الأمنية المحيطة به؟
هناك من يقول أنّ الإجابة على هذه المسألة هي من خلال الاعتماد الحصري على الجيش اللبناني. إنّما التاريخ يقول لنا بوضوح أنّ لا جيش نظامي في هذا الإقليم يقدر على هزيمة إسرائيل، المدعومة من أقوى الدول الغربية. كما وأنّ إمكانية مقارعتها تكنولوجياً وأمنياً ومخابراتياً، حتى هذه اللحظة، ليست بالمتناول.
وهناك من يقول أنّ الدبلوماسية والتحالفات الاستراتيجية يمكن أن تحمي لبنان دون إراقة دماء. وهذا صحيح حتماً إلى حدّ كبير. إنّما هل هذا الحلّ وحده يطمئن أهل قرى جبل عامل والعرقوب وأهالي البلدات الحدودية الشرقية، لكي يبقوا في أرضهم ويعملوا على إنمائها؟
وهناك من يقول أن ما يحمي لبنان هو خيار التطبيع والسلام مع إسرائيل. إنّما هذا الخيار يهدّد وحدة المجتمع اللبناني. ثم أيّ مصلحة لنا بفتح بلدنا أمنياً واقتصادياً وسياسياً ومخابراتياً أمام النظام الصهيوني الذي يتربّص بنا ويرى في لبنان منافساً استراتيجياً في الاقتصاد وفي الدور الإقليمي؟ كما وأنّه على الرغم من دعوات البعض للتطبيع، فإن التجارب السابقة (مصر، الأردن) تثبت أن السلام دون عدالة يبقى هشّاً. لكننا نرفض أيضاً تحويل لبنان إلى ساحة حرب بالوكالة.
نجد أنفسنا أمام معادلة صعبة: كيف نوازن بين الحاجة إلى دفاع فعّال ضد إسرائيل، وبين ضرورة منع أي قوّة من استغلال هذا التهديد لإضعاف الدولة؟ الجواب لا يكمن في خيار واحد، بل في استراتيجية متكاملة. فللإجابة على المسألة الأساس التي تعنينا جميعاً، وانطلاقاً من كلّ ما سبق، علينا كمجتمع وكدولة القيام بالخطوات الجريئة التالية:
- الإقرار بأنّه لا يمكن لميليشيا دينية أن تحمي لبنان، وهي تضعف الدولة وتقوّض سيادتها وتهدّد وحدة المجتمع. فنحن نريد أن نحمي لبنان من إسرائيل، إنّما لبنان لا يحتمل أن تقوم بهذا الدور ميليشيا دينية منضوية في مشروع إقليمي.
- الإقرار بأنّه لا بدّ من حصر قرار الحرب والسلم وحصر كلّ السلاح بيد الدولة؛ أي سلاح المخيمات الفلسطينية وسلاح حزب الله وسواه.
- الإقرار بأنّه ليس بالعسكر وحده نحمي لبنان. لكننا نرفض أن يكون البديل هو الاستسلام لتهديدات إسرائيل أو التبعية لمحاور إقليمية. فلبنان يحتاج إلى جيش قويّ وموحّد، ودبلوماسية ذكية ونشطة، تعيد توازن القوى لصالحنا.
- وضع استراتيجة أمن وطني تشمل كافة الجوانب السياسية والدبلوماسية والأمنية والعسكرية والاقتصاديّة والاجتماعيّة والإعلامية، فضلاً عن البنى التحتية والدفاع المدني والملاجئ، وتحديث شبكة الإنذار المبكر، وإشراف دولي على ترسيم الحدود والمساعدة في مراقبتها.
- إعادة خدمة العلم، وتشكيل قوات الاحتياط لتكون أحد أهمّ ركائز الأمن الوطني، بحيث تجتمع سنوياً لتخضع لدورات تدريبية لتكون جاهزة للقتال. وهكذا يستفيد لبنان من قدرات المقاتلين الذين خاضوا قتالاً بطولياً دفاعاً عن قراهم في الحرب الأخيرة. بالإضافة إلى تدريب الاحتياط على الحرب الإلكترونية والدفاع المدني، وربطها ببرامج التنمية المحلية (مثل تشغيل الشباب في البنى التحتية الحدودية).
- تشكيل قوات شبه نظامية (paramilitary) وطنية علمانية من قوات الاحتياط، وإعدادها نفسياً وثقافياً وعلمياً وتقنياً وعسكرياً، لكي تعمل بأمرة الدولة بشكل كامل، وتساعد الجيش في مهمة الدفاع عن الحدود.
لا يُمكن للبنان أن يبقى منقسماً بشأن هذه المسألة الحاسمة، لقد ولّى زمن الحلول الجزئية والترقيعيّة. فلا بدّ إذن من رؤية متكاملة، تشمل إطاراً دفاعيّاً فعّالاً يحمي الوطن ولا يهدّد تماسك الدولة ووحدة المجتمع. السيادة غير قابلة للتفاوض، ووحدة مجتمعنا هي سلاحنا الأعظم، ولنكن جيلاً يُنهي عصر الميليشيات ويبني دولة قادرة على حماية أرضنا ومجتمعنا.
*ماهر أبو شقرا: سياسي وكاتب لبناني
رابط المقال: https://hura7.com/?p=50545
رابط العدد: https://hura7.com/?p=50468