الأربعاء, مايو 21, 2025
14.5 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

في إشكالية التدوين القرآني

بين الغياب النبوي والحضور السياسي

الحرة بيروت ـ بقلم: محمد حسين ترحيني

هل دُوِّن القرآن بتمامه في عهد النبي محمّد، أم أن مهمة جمعه وقعت على كاهل أصحابه من بعده؟ وهل كان هذا الجمع محكماً متوافقاً عليه، أم تسرّب إليه ما تسرّب من اجتهادات وتباينات، وربما توجيهات؟ وإذا كان بين القراءات تغاير، وفي بعض الروايات ما يلمّح إلى اختلاف أو نقص، فهل يمكن الاطمئنان إلى أن النص الحاضر بين أيدينا هو بعينه الذي نزل به الوحي؟

إن السؤال الجوهري في هذا السياق ليس فقط متى جُمع القرآن، بل من الذي قرّر لحظة الجمع؟ ومن أشرف على هذا العمل؟ وهل كان ثمة إطار إلهي مباشر، أم أن التاريخ الإنساني والسياسي هو الذي رسم معالمه النهائية؟

القرآن بين لحظة التنزيل ولحظة الجمع

الرؤية السائدة في الوسط الإسلامي تقضي بأن المصحف المتداول اليوم، هو ذاته ما نزل على النبي، دون نقصان أو زيادة، وبالترتيب الذي هو عليه. غير أن ما تنقله كتب الحديث والتاريخ يفيد بأن النبي لم يُنجز عملية الجمع الكاملة بنفسه، ولا أشرف عليها إشرافاً مباشراً، بل إن ما جُمع منه في حياته كان متفرقاً: بعضه في صدور الرجال، وبعضه في الرقاع والعظام وسعف النخل، وبعضه في صحف لم تُضمّ إلى مصحف جامع.

ومع أن التنزيل استمرّ حتى اللحظات الأخيرة من حياة النبي، فإن غياب أي مبادرة منه لترتيب القرآن وتدوينه رسمياً، يطرح تساؤلات حول أولوية هذا المشروع في تفكيره، رغم أن التبليغ والتدوين يفترض أن يكونا في صلب الرسالة التي تُخاطب البشرية كافة. فلو كان التدوين الكامل مطلباً إلهياً مُلحّاً، لبادر النبي إليه، ونظّم عملاً جماعياً لضبطه، بل لربما أوكل المهمة إلى لجنة بإشرافه، لكن الواقع ينفي حدوث ذلك.

الصحابة وجمع النص بعد الرحيل

بعد وفاة النبي، برزت الحاجة العملية إلى جمع القرآن، خصوصاً بعد معركة اليمامة التي استشهد فيها عدد كبير من الحفّاظ. هنا برز دور أبي بكر الصديق، الذي استجاب لإلحاح عمر بن الخطاب، فاستُدعي زيد بن ثابت، أحد كتبة الوحي، لإنجاز هذه المهمة، بالاعتماد على المكتوب والمتوارث شفوياً، مع اشتراط وجود شاهدين لكل آية (صحيح البخاري، ج6، ص71).

لم يكن هذا الجمع سوى بداية؛ إذ تميّز بالبساطة، واعتمد على تحقق ظنّي لا يقيني، فلا نكاد نجد فيه مرجعية سماوية واضحة تُشرف عليه، بل اجتهاد بشري في سياق سياسي وديني متداخل. زيد نفسه ذكر أن آخر آيات سورة براءة لم يجدها إلَّا مع خزيمة بن ثابت، فرُفِعت مكانها بشهادته وحده، إذ اعتُبرت شهادته بشهادة رجلين (السيوطي، الدر المنثور، ج1، ص302).

عثمان وتوحيد النص

أما الحسم الحقيقي لجمع القرآن فقد حصل في زمن عثمان بن عفان، بعد اتّساع رقعة الدولة الإسلامية وظهور اختلافات بين القرّاء في الأمصار، حتى وصل الأمر إلى حدّ التلاعن والتكفير بسبب تعدّد القراءات. هنا تحرك الخليفة الثالث مستجيباً لتحذير حذيفة بن اليمان من انقسام الأمة حول “الكتاب”، فأمر باستنساخ مصحف حفصة، بعد مراجعة دقيقة، بإشراف زيد بن ثابت وثلاثة من قريش، مع استدعاء كل من كان يحفظ أو يملك شيئاً من القرآن لتثبيت ما لديه (كنز العمال، ج2، ص584).

أهمية هذا التدوين أنه لم يقتصر على نسخ ما جُمع من قبل، بل شمل تدقيقاً جديداً وتثبيتاً لنصوص لم تكتب في الجمع الأول. فقد ذكر زيد أنه فقد آية من سورة الأحزاب فلم يجدها إلَّا مع خزيمة بن ثابت، فأُلحقت (المتقي الهندي، كنز العمال، ج2، ص584).

كذلك، تمّ خلال هذا الجمع اعتماد ترتيب السور، تسمية بعضها، وتحديد موضعها، فيما رُفضت سور أخرى مثل “الخلع” و”الحفد” التي ذكرها الجاحظ في رسائله (ج3، ص171)، كما حُذفت قراءات لم تكن معتمدة، وأُهملت مصاحف كُتبت على يد بعض الصحابة، منها مصحف ابن مسعود، الذي لم يعترف بالمعوذتين، ومصحف أُبيّ بن كعب، ومصحف علي.

حول الذاكرة والنسيان في مسألة التدوين تظهر في كتب الحديث إشارات مثيرة للتساؤل حول ذاكرة النبي وعلاقته بالقرآن. فقد روى البخاري عن عائشة: “سمع النبي رجلًا يقرأ، فقال: يرحمه الله، لقد أذكرني آية كنت أنسيتها” (صحيح البخاري، ج6، ص194)، ومثله عند مسلم (ج2، ص190).

كيف يُنسى النص إذا كان حفظه وضبطه أمراً إلهياً مصيرياً؟ وهل النسيان هنا يعكس طبيعة بشرية أم غياب تدوين منهجي محكم؟

المصحف كوثيقة تاريخية – دينية

إن التدقيق في لحظات الجمع القرآني يكشف أن النص لم يُنزّل مرة واحدة بترتيبه الحالي، ولا نُقِل بعناية مطلقة من لحظة النزول حتى لحظة التدوين، بل تدخّلت في تشكيله عوامل بشرية وسياسية. صحيح أن البعد الروحي للنص محفوظ في ذاكرة الأمة، لكن لا يمكننا أن نُغفل أن ما جُمع، كان ثمرة اجتهادات، واختيارات، وتفضيلات، وأحياناً ضغوط، وهو ما يجعل المصحف وثيقة دينية لكن أيضاً وثيقة تاريخية.

من هنا، يصبح النظر في القرآن لا بوصفه كتاباً خارج الزمان، بل باعتباره خطاباً نزل في سياق تاريخي معيّن، ضرورة معرفية. وإخراجه من حدود زمن التنزيل إلى أفق إنساني أشمل، لا يعني التشكيك فيه، بل قراءته قراءة واعية تُدرك أن قدسيته لا تُلغي بشريّة من نقله ودونه.

رابط المقال: https://hura7.com/?p=50679

رابط العدد: https://hura7.com/?p=50468

 

الأكثر قراءة