الحرة بيروت ـ بقلم: محمد سعد عبد اللطيف، كاتب وباحث مصري
في عالمٍ يُكتَب فيه التاريخ من فوق، حيث تُدوَّن انتصارات السلاطين وأهواء الحكام في سجلاتهم المذهَّبة، يبقى صوت المقهورين في القاع هامسًا، لكنه حاضر. هكذا يتشكَّل التاريخ الرسمي: خطاباتٌ جوفاء، وسرديَّاتٌ تبريريَّة، واحتفالاتٌ مصطنعة بانتصاراتٍ لم تحدث، بينما الحقيقة تُدفَن مع أصحابها أو تبقى صرخةً يتيمةً في الأزقَّة المظلمة للمدن والقرى المنسيَّة.
“بين السلطة والكلمة… معركة الوجود
في العالم العربي، التاريخ دومًا ملكٌ للسلطة، يُعاد تشكيله بحسب الحاجة، ويُسحق من يعترض أو يكتب ما لا ينبغي أن يُكتَب. إنها معركةٌ قديمةٌ بين القلم والسيف، بين الخطاب الرسمي والخطاب المضاد، بين السلطة والخطاب الروائي. هذا الأخير هو صوت الفقراء والمهمَّشين، الذين لم يكن لهم يومًا مكانٌ في سجلات البلاط، لكنه ينبعث في قصص الشوارع وأحاديث الحارات.
كان” ابن خلدون “من أوائل من كسر هذه القاعدة، إذ نقل التاريخ من صالونات الحكم إلى الأسواق والطرقات، متأمِّلًا في حياة البسطاء، ومقدِّمًا رؤيةً تختلف عن خطابات السلاطين. واليوم، يُعاد إنتاج هذه الفكرة في تيَّاراتٍ فكريَّةٍ وأدبيَّة، مثل: “التاريخ من أسفل” في بريطانيا، و”الميكروتاريخ” في إيطاليا، و”دراسات التابع” في الهند، حيث يُعاد اكتشاف الهامش بوصفه مركزًا حقيقيًّا للحياة والتاريخ.
سوريا… حيث يُكتَب التاريخ بالدم
منذ اندلاع المأساة السوريَّة، أرادت السلطة أن تكون الجريمة صامتةً، بلا شهود. لكنها اصطدمت بجيلٍ مسلَّحٍ بالكلمات والتكنولوجيا، يوثِّق ما يحدث لحظةً بلحظة. المواطنون البسطاء، الذين لم يدرسوا التأريخ أو الصحافة، تحوَّلوا إلى المؤرِّخين الحقيقيِّين لهذه المرحلة. في ظلِّ آلة التزوير الإعلامي، كان الفيسبوك وتويتر ويوتيوب هو الأرشيف البديل، حيث لا يمكن دفن الحقيقة إلى الأبد.
لكن، رغم هذا التوثيق، سيظلُّ هناك من يحاول إعادة سرد الحكاية وفقًا لرغبات المنتصر. سيُقدَّم الجلَّادون أبطالًا، وستُطمَس أسماء الأمهات الثكالى والأطفال الذين قُتلوا في صمت. وهنا تكمن أهميَّة أن يكتب الناس تاريخهم بأنفسهم، بعيدًا عن السلطة وسرديَّاتها المصطنعة.
المسكوت عنه في العالم العربي
بينما يُكتَب التاريخ الرسمي في القصور، يُحكَى التاريخ الحقيقي في القرى، بين الرعاة والفلاحين، في السجون المعتمة، في أزقَّة المخيَّمات، وعلى ألسنة من لا صوت لهم. لكنه تاريخٌ مخفيٌّ، ممنوعٌ من التداول، ومهدَّدٌ بالإبادة في كلِّ لحظة.
في مصر، يظهر تاريخ القاع في حكايات الفلاحين الذين طُرِدوا من أراضيهم، وفي صمت العشوائيَّات التي تحيط بالقاهرة مثل حزامٍ بائسٍ لا يريد أحدٌ أن يراه. في العراق، هو تاريخ المختفين في السجون والمقابر الجماعيَّة. في فلسطين، هو تاريخ الأمهات اللواتي ينتظرن أبناءهنَّ العائدين من المعتقلات أو الذين رحلوا دون عودة. في لبنان، هو تاريخ من عاشوا الحروب ثم اضطرُّوا لابتلاع مآسيهم في صمت.
وفي كلِّ هذه الدول، يُنظِّر مثقَّفو الصالونات عن الحداثة والديمقراطيَّة، بينما يموت الناس في القاع دون أن تُذكَر أسماؤهم في أيِّ كتاب.
السلطة تخاف من الحقيقة
لم تكن هناك سلطةٌ يومًا ما لا تخاف من الكلمة، فالكلمة تكشف، تعرِّي، تفضح، وتبقى حتى بعد سقوط الطغاة. لهذا، تضع الأنظمة قوانين “العيب”، و”الفتنة”، و”إهانة الرموز”، لمنع أيِّ سرديَّةٍ بديلة. ولهذا، تخاف الجماعات الدينيَّة المتشدِّدة من الفلسفة والفكر النقدي، لأنَّهما يدمران الصورة النمطيَّة التي تريد نشرها عن نفسها.
بل حتى الأفراد، الذين بنوا حياتهم على أقنعةٍ مزيفة، يخافون من الحقيقة، لأنَّها تُجرِّدهم ممَّا يتخفَّون خلفه. ولهذا، يخشى العالم العربي التاريخَ الحقيقي، لأنَّه يفضح زيف السرديَّات الرسميَّة، ويدمِّر أسطورة الحكَّام المخلِّصين، ويعيد تعريف الهويَّة بعيدًا عن الأكاذيب التي ورثناها.
من هامش البرازيل إلى قاع الوطن العربي
الكاتبة البرازيليَّة (كونسيساو إيفاريستو) كتبت تاريخ الهامش، تاريخ من وُلدوا بلا امتيازات، ومن عاشوا كأيادٍ عاملة في منازل الأغنياء. لم تستسلم لوضعها، بل كتبت، وثبَّتت صوتها في المشهد الأدبي حتى أصبح جزءًا من المناهج الدراسيَّة. إنَّها نموذجٌ للكيفيَّة التي يمكن بها تحويل القاع إلى مركز، وجعل صوت المهمَّشين جزءًا من الرواية الوطنيَّة.
في العالم العربي، نحتاج إلى مئاتٍ من هذه الأصوات، إلى كتاباتٍ تأتي من العشوائيَّات والقرى، من أمهات الشهداء، من العمَّال المنسيِّين، من اللاجئين الذين تحوَّلوا إلى أرقام. نحتاج إلى أن يكتب كلُّ فردٍ قصَّته، كما هي، بلا تزييف، بلا محاولةٍ لإرضاء السلطة، بلا خوف.
التاريخ يُكتَب الآن… فإمَّا أن نرويه، أو يكتبه غيرنا
إذا تركنا للسلطة كتابة التاريخ، فسنعيش للأبد في كذبة. إذا لم نوثِّق القاع، سيظلُّ المهمَّشون في الظلِّ، وستبقى الحقيقة مدفونةً تحت ركام الأكاذيب الرسميَّة.
التاريخ ليس سجلات الحكَّام، بل هو يوميَّات الفقراء، صرخات الضحايا، أحلام العمَّال، ودموع الأمهات. إنَّه في الأسفل، حيث الحقيقة، لا في الأعلى، حيث تُباع الكلمات لمن يدفع أكثر.