الحرة بيروت ـ بقلم: محمد سعد عبد اللطيف كاتب وباحث مصري
في إحدى المقاطعات المصرية، أقيمت جنازة رسمية لمسؤول سابق، لا يعرفه أحد، حتى بواب المبنى الذي ظل يفتح له الباب صباحًا ويغلقه مساءً لسنوات طويلة، دون أن يحفظ اسمه.
جاء القرار الوزاري حاسمًا: “الحزن واجب وطني، والعزاء إلزامي بحكم مقتضيات المصلحة العامة”.
وتم تعميم المنشور على جميع الإدارات: “الرجاء الحضور بملامح مناسبة للحدث، والامتناع عن الابتسام إلا بتصريح رسمي”.
توافد المئات إلى قاعة العزاء. بعضهم حضر ظنًا أنه مؤتمر عن التحول الرقمي، وبعضهم جاء بعد أن سمع عن بوفيه مفتوح، وآخرون طمعًا في لقطة على نشرة التاسعة. ولم يعرف أحد اسم الفقيد إلا من اللافتة السوداء المُعلقة على بوابة القاعة.
دار همسٌ خافت بين الحضور:
– “هو ده المرحوم…؟”
– “أيوه، غالبًا كان في منصب كبير”.
– “المهم إنه كان مسؤول… الباقي تفاصيل لا تهم”.
في الداخل، وقف المصور الرسمي كقائد أوركسترا حزينة:
– “حضرتك، زوّد الحزن شوية… لا، ده كتير قوي… كده ممتاز…!”
كانت الكاميرا تبحث عن دمعة، كما يبحث رجال المرور عن مخالفة تقف في الظل.
وفي الركن الخلفي، سأل شابٌ بصوت خافت:
– “هو لازم أزعل بجد…؟”
فجاءه الرد من موظف حكومي مخضرم:
– “أكيد، ده حزن بقرار رسمي. ولو مش لاقي حزنك، استعير شوية من زميلك…!”
أما أهل الفقيد الحقيقيون، فقد جلسوا في دهشة، يتهامسون يتساءلون:
– “كل دول حضروا عشانه؟”
– “إحنا ماكناش نعرف إنه محبوب كده..!”
– “ولا متأكدين إنهم يقصدوا قريبنا فعلًا…”
انتهى العزاء بـ”نجاح باهر”، حسب وصف المنظمين. تعانق الجميع، تبادلوا الابتسامات وأرقام الهواتف والبطاقات الشخصية، هؤلاء جماعات الألتراس أصحاب الواجب في كل مكان، وتحولت المناسبة إلى لقاء اجتماعي، بلا دموع حقيقية، وبلا موعظة موت.
في بلاد الجن والملائكة، لم يعد الموت مناسبة إنسانية، بل مشهدًا مؤسسيًا يُدار بالبروتوكول.
أُفرغت الجنازات من معانيها، وصار الحزن إجراءً إداريًا مؤقتًا، يُمارسه المواطن كما يرتدي الزي الرسمي.
حتى العزاء، ذلك الطقس الإنساني العميق، صار مودرنًا، يُستخدم فيه التصوير والمونتاج والبث المباشر.
تحوّل إلى ماراثون نفاق انتخابي، حيث يحتشد المرشحون أمام الكاميرات، يصافحون الحضور، ويستعرضون “شعبيتهم الجماهيرية”، بينما لا يعرف أغلبهم إن كان الفقيد ذكرًا أو أنثى، أو ما إذا كانوا قد التقوه من قبل.
وهكذا، ينقلب العزاء إلى حفلة زائفة… بلا دموع، بلا حزن، بلا موعظة، لكنها – كما يقول المنشور الرسمي – “انتهت بنجاح”. وما بين لافتات النفاق وكاميرات الزيف، يبقى السؤال: من مات فعلًا…؟ المسؤول…؟ أم المجتمع الذي شيّع روحه في صمت…؟