الأربعاء, أبريل 23, 2025
18 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

محمد سعد عبد اللطيف ـ عصر الاضمحلال: من حكم الدولة إلى سيطرة الحارة

الحرة بيروت ـ بقلم: محمد سعد عبد اللطيف، كاتب وباحث مصري متخصص في علم الجغرافيا السياسية

في زمن تحولت فيه الأرض إلى قرية صغيرة، لم تعد السياسة شأنًا للنخب المتعلمة أو أصحاب الفكر العميق، بل أصبحت أقرب إلى إدارة حارة تسودها الفوضى والشائعات. كانت القرية، ذات يوم، رمزًا للبساطة والترابط، لكنها اليوم باتت نموذجًا مصغرًا للفوضى العالمية، حيث تحكمها الديماغوجية، ويقودها من يملكون الصوت الأعلى لا الفكرة الأعمق. فهل نحن في عصر الاضمحلال، حيث تذوب القيم أمام صعود الشعبوية، وتتلاشى المؤسسات أمام سيطرة الزعامات المؤقتة؟

من صعود الشعبوية إلى احتضار الدولة

إذا نظرنا إلى المشهد السياسي الحالي، سنجد أن معظم الدول، سواء كانت ديمقراطية أو سلطوية، تواجه أزمة عميقة في بنيتها الحاكمة. في الديمقراطيات الغربية، لم يعد السياسيون رجال دولة يسعون لإدارة شؤون الناس بحكمة، بل أصبحوا مجرد نجوم في سيرك إعلامي، يلهثون خلف التصفيق السريع بدلاً من بناء سياسات طويلة الأمد. يكفي أن نرى كيف تحولت الحملات الانتخابية إلى مباريات في الخطابة الفارغة، حيث يُقدَّم للناخبين وعود براقة، بينما تتآكل مؤسسات الدولة من الداخل.

أما في الدول السلطوية، فالوضع أكثر قتامة. فالحكام الجدد ليسوا أكثر من أمراء حرب يرتدون بدلات رسمية، يستخدمون أدوات القمع بيد، ويوقعون عقود النفط والسلاح باليد الأخرى. لم تعد السلطة تعني تحقيق العدالة أو تحسين حياة الشعوب، بل أصبحت مجرد وسيلة لضمان البقاء، ولو على حساب الخراب العام.

الدولة في مواجهة الحارة

لم تعد الدول تُحكم عبر مؤسسات راسخة، بل باتت تدار بمنطق الحارات. ففي العديد من الدول، تسيطر مجموعات مصالح ضيقة على مقاليد الحكم، تمامًا كما تسيطر عائلات نافذة على أحياء المدن القديمة. في بعض الدول، قد تجد وزيرًا ليس سوى امتدادٍ لعصابة مالية، أو حاكمًا لا يختلف في ممارساته عن “كبير الحارة”، يوزع العطايا على المقربين، ويقصي من يعارضه حتى لو كان أكثر كفاءة.

هذا التراجع في مفهوم الدولة لصالح منطق الحارة انعكس على كل مناحي الحياة. ففي بعض الدول العربية، لم يعد المواطن يثق بالقانون، بل بات يبحث عن “واسطة” تُنهي مشاكله. في الغرب، أصبحت السياسة لعبة استقطاب حاد، حيث لم تعد الحقيقة مهمة بقدر القدرة على الصراخ وإثارة المشاعر. أما في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، فالدولة نفسها تحولت إلى كيان هجين، لا هو قوي بما يكفي لحماية الناس، ولا هو ضعيف بما يكفي ليسمح لهم بإدارة شؤونهم بأنفسهم.

اقتصاد الريع: الحارة المالية الكبرى

لم تعد الدول تُدار وفق خطط اقتصادية واضحة، بل باتت أقرب إلى أسواق سوداء ضخمة، حيث يتلاعب الأقوياء بالثروات كما يفعل السماسرة في زوايا الحارات المظلمة. ففي بعض دول الخليج، يتم الحفاظ على الاستقرار عبر توزيع الريع النفطي، بينما تُسحق أي محاولة لبناء مجتمع سياسي مستقل. في الغرب، أصبحت الرأسمالية المتوحشة تلتهم الطبقة الوسطى، مما خلق شعورًا عامًا بالغضب، غذّى صعود الشعبويين الذين يبيعون الوهم للناس.

أما في الدول الفقيرة، فلم يعد الاقتصاد سوى لعبة قمار يديرها الفاسدون. فالقروض الدولية تُنهب قبل أن تصل إلى مشاريع تنموية، والفساد أصبح قانونًا غير مكتوب، حيث يتم نهب ثروات الشعوب دون أي خوف من المحاسبة.

هل من مخرج؟

إذا كان التاريخ يعلمنا شيئًا، فهو أن كل مرحلة من الفوضى تسبق عادة ولادة نظام جديد. لكن السؤال الأهم: هل نحن في مرحلة المخاض، أم أننا عالقون في دوامة بلا نهاية؟ هل هناك قوى جديدة قادرة على إعادة التوازن، أم أن الشعوب ستظل رهينة لهذا العبث إلى أجل غير مسمى؟

ربما يكون الحل في عودة الفكرة، في استعادة دور المثقف كصوت مستقل، لا ينتمي لا للحاكم ولا للمعارضة، بل للناس. وربما يكون الحل في مقاومة منطق الحارة الذي أفسد الدولة، عبر إعادة بناء المؤسسات على أسس قوية، لا على الولاءات الشخصية والعصبيات الضيقة.

لكن إلى أن يحدث ذلك، سيظل العالم أشبه بساحة معركة بين الدولة والحارة، بين القانون والفوضى، وبين الحقيقة والوهم. وسيبقى السؤال مفتوحًا: هل نحن في عصر الاضمحلال حقًا، أم أننا فقط ندور في حلقة أخرى من حلقات التاريخ العبثية؟

https://hura7.com/?p=48056

الأكثر قراءة