الحرة بيروت ـ بقلم: محمد سعد عبد اللطيف ،كاتب وباحث مصري متخصص في علم الجغرافيا السياسية
في إحدى ليالي الشتاء القاسية بألمانيا، كنت أسكن في بناية تضم لاجئين من جنسيات مختلفة. في المساء، كان هناك رجلٌ عراقيٌّ، مبتور الساق، يجلس بجوار المدفأة، يتأمل كأسه بصمتٍ، كمن يرى ماضيه يحترق أمامه. سألته يومًا: “لو سقط النظام… ماذا ستفعل؟”.
رفع رأسه ببطء، ونظر إليَّ نظرةً كأنها خرجت من جحيمٍ قديم، ثم قال بصوتٍ باردٍ كحدّ السكين، لا غضب فيه ولا تردد، بل يقينٌ كأن الانتقام لم يكن مجرد فكرة، بل وعدًا لم يحن موعده بعد: “سأنتقم!”.
الحرية لا تأتي فجأة… بل تخرج من تحت الأنقاض.
في العراق وسوريا، كما في فرنسا أيام سقوط الباستيل، لم تكن الثورات بوابةً للحرية، بل طريقًا طويلًا نحو الجحيم. بعد سقوط سجن الباستيل عام 1789، ظن الفرنسيون أن زمن القمع قد انتهى، لكن سرعان ما تحولت الثورة إلى مقصلةٍ عملاقةٍ تلتهم حتى قادتها. الثوار الذين حاربوا الطغيان أصبحوا طغاةً، والساحات التي احتشد فيها الحالمون بالحرية تحولت إلى مذابح مفتوحة.
التاريخ يعيد نفسه، ولكن بوجوهٍ مختلفة. ما حدث في العراق تكرر في سوريا، بل وبصورةٍ أشد وحشية. القتل على الهوية، المجازر الطائفية، والانتقام المتبادل بين الجماعات المتصارعة، كل ذلك كشف أن الحروب لا تنتهي بسقوط الأنظمة، بل تبدأ عندها.
ظنَّ البعض أن سوريا ستتحول بين ليلةٍ وضحاها إلى دولةٍ ديمقراطية، لكنهم تجاهلوا أن الدول التي تتعدد فيها الأقليات العرقية والطائفية تظل الأكثر هشاشةً، والأكثر عرضةً للانفجار عند أيِّ انهيارٍ سياسي. ما حدث بعد سقوط صدام حسين يتكرر الآن في سوريا: ساحات إعدامٍ مفتوحة، وجماعات تقتل باسم الطائفة، ودماءٌ كانت حبيسةً في الذاكرة خرجت لتغرق الأرض.
“وحوش بيننا… لكن بأقنعةٍ أنيقة”
في كتابها “جينات الشر”، تؤكد عالمة الأعصاب (باربرا أوكلي) أن هناك نوعًا من البشر يولد بطبيعةٍ عدوانية، لا يعرف الرحمة، لكنه يتقن التمثيل. قد تراه بجوارك في العمل، يبتسم لك كل صباح، لكنه داخليًا كائنٌ مجوّف، يعيش على امتصاص طاقة الآخرين.
هؤلاء، عندما ينهار النظام، لا يبحثون عن العدل، بل عن ضحايا جدد. كانوا يلبسون أقنعةً براقة، لكنها تنزلق في أول عاصفة، ليظهر وجه الوحش الحقيقي.
في سوريا، كما في العراق، كانت الأقنعة تخفي الأحقاد، لكنها لم تمحها. وعندما اختفى القانون، لم يظهر العدل… بل ظهر الانتقام!
أخيرًا: حين تتحول الضحية إلى جَلّاد؟
نحن لا نعيش في عصرٍ جديد، بل في تكرارٍ دائمٍ للماضي، بأدواتٍ أكثر حداثة. الفرق الوحيد أن الوحوش التي كانت تجوب الغابات في العصور القديمة، باتت تسير بيننا الآن في الشوارع، تتحدث عن الديمقراطية، وترتدي البدلات الأنيقة، وتخفي مخالبها حتى تحين اللحظة المناسبة.
وكما سقط ثوار الباستيل في فرنسا، يسقط اليوم من حملوا شعارات الثورة في بلداننا، ليعيدوا إنتاج القمع، ولكن بأقنعةٍ جديدة. وحين يسقط القناع… لا نجد الحرية، بل نجد الوحش ينظر إلينا، مبتسمًا!