الخميس, نوفمبر 6, 2025
23.4 C
Beirut

الأكثر قراءة

إصدارات أسبوعية

مرافعة وجدانية أمام محكمة الضمير الإنساني

د. جاد طعمه

 

جريدة الحرة ـ بيروت

أن يغيب العدد الأسبوعي لـ”الحرة” هو قرار مفهوم نحاول استيعابه بمختلف أبعاده وأسبابه، بروحية الطبيب الذي يعلم أنه، في نهاية المطاف، لا بد أن يدخل غرفة العمليات، ويستعمل المشرط، ويتآلف مع مشهد الدماء، لأنه يدرك أنه يؤدي رسالة سامية.

حين عبّرت مديرة تحرير “الحرة” ـــ وهي، بالنسبة إليّ، من الخامة النادرة في عالم الصحافة المليء بالمغريات الناعمة والخشنة، وبالتهديدات الناعمة والخشنة أيضاً ـــ وجدتُ نفسي متطوعًا، من دون تردّد، للوقوف إلى جانبها. لا سيما حين صرّحت بأنها تحاول بناء تجربة فريدة، بإطلاق عدد أسبوعي بنكهة لبنانية أصيلة، تحاكي تجارب الكبار الذين رحلوا وتركوا فينا أثرًا وبصمة، من أمثال غسان تويني، وميشال أبو جودة، وأنسي الحاج، وسمير قصير، وجبران تويني… ومنهم من دفع حياته ثمناً للكلمة الحرة، وكانوا جميعهم على استعداد لتقديم أنفسهم قرابين لقيامة لبنان الذي نحلم به.

وحين تلقّت اتصالًا في أحد أيام حزيران، وطلبت مني ــ كصديقة صادقة وصدوقة ــ المؤازرة القانونية، في وجه انتهاك صارخ لحرية الرأي والتعبير، وهي التي طالما حاضرت بشأنها نظريًا كما يفعل كثيرون، وجدتُ نفسي أمام امتحان من نوعٍ آخر: امتحان المواءمة بين ما نقوله نظريًا وما نمارسه فعليًا.

هذا الامتحان أعادني بالذاكرة إلى جلساتي مع نقيب المحامين الراحل، فقيدنا الكبير عصام كرم، الذي لطالما علّمني أننا يجب أن نقف حيث ينبغي الوقوف، ولو كنا قلّة، لنقول كلمة الحق بحكمة، ولكن من دون مراوغة ولا نفاق، لأننا في النهاية لن نعيش إلا مع ضميرنا.

وطبعًا، لم أتردّد في أن أطبّق ما كنّا نقوله نظريًا على أرض الواقع. وذلك لم يكن ممكنًا لولا كلمات قالتها مديرة تحرير “الحرة”، حفرت في وجداني: “أثق بك وبمشورتك… وأنا ثابتة على الحق، ورقبتي بين يديك”.

هنا بدأ درب الجلجلة… في وطنٍ اعتاد قضاته على محامين من نوعٍ آخر، ومن قماشةٍ أخرى. فالمحامون، غالبًا، ومن أجل تحقيق مصالحهم الاستراتيجية على المدى الطويل، يلجأون إلى الأسلوب الناعم في أي مواجهة، لأن التكتيك يفترض وجود معركة قانونية آنية، لكن المصلحة بعيدة المدى تقتضي عدم استفزاز من هم في مواقع اتخاذ القرار.

وخاصة إنْ كان من في المقابل إنسانًا قرّر طوعًا أن يحمل في يدٍ ميزان العدالة، الذي يُفترض أن يُغلّب كفة الرحمة، وفي اليد الأخرى سيفها، ليكون حازمًا في إحقاق الحق، بعينين مغمضتين توخّيًا للحياد المطلوب.

هذا هو الشقّ النظري والفلسفي لمفهوم العدالة. أما في الجانب الواقعي، فثمّة قاضٍ يمتلك مشاعر الغضب، وقد يمتلك السلطة، وقد ينتفض للدفاع عمّا يعتبره مسًّا بكرامة الرسالة القضائية.

ويُفترض بمن ينتفض دفاعًا عن الهيبة، أن يرفض كل أداء فيه ظلم أو جور، وألا يكون ناعمًا في ردات فعله متى لحق الظلم بسواه؛ لا أن يطالب الآخرين بالصبر بينما يسعى هو لتحطيم كلّ من يظلمه، وإنْ عن غير قصد، لأن كرامته، بحسب منطقه، فوق كل الكرامات. وفي هذا التفصيل، كثيرٌ من الطامّات الكبرى.

هيبة القضاء تتحقّق حين يتجسّد مفهوم العدالة ببُعده الأخلاقي والفلسفي، وحين يكون الإنسان متجرّدًا من مشاعره الذاتية، لأنه يسعى إلى تحقيق العدالة على الأرض والحكم بين الناس. أما دون ذلك، فثمّة، بلا شك، جنوحٌ واستغلال نفوذ، وانتفاضةٌ بائسة في غير محلّها.

فالهيبة تُصان بمحاسبة الفاسدين، لا بممالأتهم. بعدم الردّ على اتصالاتهم، لا بالخضوع لضغوطهم. بعدم إبرام التسويات مع المجرمين، وبمراقبة أداء كل جهاز يضرب بسيف العدالة باسم صاحب السلطة، وبإغلاق الأبواب في وجه السماسرة الرسميين وشبه الرسميين، والخبراء، والوكلاء، والوسطاء، وكثير من أولئك الذين يحملون صفات أخرى… بعضهم نعرفه، وكثيرون ما زلنا عنهم غافلين.

أسوأ ما يمكن أن يصيب صاحب السلطة هو أن يعتقد أن التهديد والترهيب مجرّد إجراء عابر يمكن التغاضي عن التجاوزات التي ترافقه. لأن بعض الكلمات، وإنْ جاءت عرضًا، تترك أثرًا بالغًا في النفس والوجدان، وقد ترقى إلى مرتبة الجريمة.

فلا أقسى من العطف الجرمي، أو الفبركة، التي قد تطال شخصية حرصت على بناء سمعة مهنية مستقيمة، لتتعرّض للتهديد من فئةٍ يُفترض بها أن تزأر في وجه من يستحقّ الزئير، لا أن تستقوي على من يجب حمايتهم. هذه الفئة، التي يُفترض بها صون المواطن الصالح والثناء على أدائه الوطني والأخلاقي، تحتاج إلى علمٍ خاص: علمٍ يحيط بتأثير الكلمة على النفوس الكريمة، السهلة الانكسار، لا لهشاشتها، بل لأنها أمضت عمرًا في التعالي عن الإغراءات، كي لا تسمع كلمة جارحة أو ظالمة.

هذه النفوس تبني صومعتها الخاصة، وبعض الاقتحامات الكلامية إليها تُعدّ تدنيسًا لحرمة الوجدان، الذي يشبه الأماكن المقدّسة. وهذا التدنيس الظالم، المفضي إلى الخوف أو إلى انهمار الدموع، هو حجّة على صاحب السلطة في محكمة العدل الإلهية، أما أصحاب السلطة، فهم في غفلتهم يلهون.

خلال مسيرة حمل الصليب دفاعًا عن مديرة تحرير جريدة “الحرة”، كان، منذ اللحظات الأولى، فوجٌ من أصحاب النصح الأبوي، أو من أصدقاء بدافع المحبة، يكرّرون مقولة مفادها وجوب التخلي عن “النظريات” المكتوبة في الكتب حول حرية الرأي والتعبير، ومجاراة الواقع بواقعيته التي تفترض الرضوخ والمحاباة وتقديم الولاء للسلطة، حتى وإنْ تعسّفت.

فصاحب السلطة، بحسب هذا المنطق، فرعونٌ من فراعنة هذا الزمان، لا بدّ من الركوع أمامه.

لكن هذا المنطق لم يجد طريقه لا إلى مديرة تحرير “الحرة”، ابنة مدرسة سمير قصير الذي قدّم دمه فداءً لرسالة الصحافة، ولا إلى من شرّفته بتولّي مهمة الدفاع عنها، وهو ابن مدرسة النقيب الراحل عصام كرم، في المحاماة التي تتبنّى نظرية المواجهة بالكلمة القاسية… لكن الموزونة، وبكل احترام.

خلال هذا المسار، وجدنا جموعًا غفيرة متعاطفة ومتضامنة، ومستعدة للمؤازرة. ومن عمل بصمت، من دون استعراضات، أي بصدقٍ وإيمان دفاعًا عن الحق، كان تضامنه مقدّرًا ومحمودًا.

وهناك فئة كبيرة كانت مستعدّة لاتخاذ خطوات تصعيدية، غير أن مديرة تحرير “الحرة”، وبعد مشورة وكيلها القانوني، رأت أن البلد الذي نحلم به يمرّ بفترةٍ صعبة، وأن علينا تجنيبه خضّات إضافية يمكن الاستغناء عنها، من باب الزهد بالظهور والاستعراضات، التي همس كثيرون في أذنها أن وكيلها القانوني يسعى إليها، ويستثمر فيها كل طاقاته. لكن حسابات حقولهم لم تتطابق مع جردات بيادرنا في هذا الصدد.

اعتقدت مديرة تحرير “الحرة”، في الوهلة الأولى، أن أسوأ ما يمكن أن يحصل معها قد حصل… لكن درب الجلجلة لا يُسمّى كذلك لولا اكتشاف الخونة، وأصحاب الخناجر المسمومة التي تطعن التجارب من الخلف، وأولئك الذين يحملون مشاريع جانبية، يسعون للاستثمار في كل تجربة يُراد لها أن تكون نزيهة ومُنزهة.

ولكي تنجح الاستثمارات، لا بد من توافر فئةٍ من تجّار القضايا السامية، ممن يُتقنون العرض والطلب في سوق النخاسة، مقابل تعهدات بارتهان الكلمة لمن يفتحون صالات المقامرة بالمبادئ.

كل أوراق التوت كانت تسقط تباعًا، والمشاهد كانت فظيعة، لا بل مدمّرة. لأن زرع الألغام في الطريق لم يأتِ بمبادرات من العدو المفترض، بل كان تفخيخ الدرب والعبوات التي نجت منها مديرة تحرير “الحرة” بنيران صديقة.

وهناك الكثير ممّا سيُقال، في ساعة الصفر التي تحدّدها كارين عبد النور وحدها.

في افتتاحية العدد الأسبوعي رقم 14، أعادت مديرة تحرير “الحرة” تقديم مكاشفةٍ للجمهور، كشفت فيها الكثير من الحقائق بلغتها الراقية. أما الافتتاحية الثانية، فتضمّنت إعلانًا عن احتجاب العدد الأسبوعي لفترة، على أمل العودة لاحقًا، بعد تقديم تجربةٍ فريدة من نوعها.

بعد هذه الافتتاحية اليوم، هناك دعوةٌ منّي أنا شخصيًّا، لكل من نطق باسم تجربة “الحرة” في المجالس الخاصة، زاعمًا أنه يملك زمام الأمر والقرار، ولكل من أساء الفهم وتسبّب بهذا الكم من الأضرار، التي أراها قد ارتدّت علينا بأمور نافعة.

هنيئًا لكم هذا الإنجاز الكبير!

أطالبكم، بمحبة، أن ترفعوا أيديكم وتتأملوها. فلعلّكم تجدون عليها بقعًا من دماء جريمتكم… الجريمة التي قتلت تجربة صحافية ناشئة، كانت تعطينا هواءً نقيًّا مرة كل أسبوع، وكنت أراها حلمًا واعدًا، يوازي حلم الشباب اللبناني الصادق في انتفاضة 17 تشرين.

وهنيئًا لكم تحقيق أهداف من أزعجتهم أقلام الحق، التي سيبقى صداها يتردّد في لحظات صحوات ضمائركم، الغائبة عن الوعي الوطني.

أما معركتنا القانونية، فستنتصر حتمًا أمام محكمة الضمير، التي لا بد أن تصدر قرارها بعودة الهواء النقي، وستبقى أقلام كتّاب “الحرة” سيوفًا مسلّطة… ولها عودة.

https://hura7.com/?p=62018

 

 

الأكثر قراءة