الأحد, نوفمبر 9, 2025
21.4 C
Beirut

الأكثر قراءة

إصدارات أسبوعية

معركة غزة ومعركتا ستالينغراد وبرلين

قراءة تاريخية وسياسية وفلسفية

محمد عبد اللطيف

 

جريدة الحرة ـ بيروت

أمام أعين العالم، تشتعل غزة كسجلٍ مفتوحٍ لأحزان التاريخ ومرآةٍ قاتمةٍ لقدرة الإنسان على التدمير والمعاناة. ليست غزة مجرد بقعةٍ على الخريطة؛ هي ذاكرةٌ مُكثَّفةٌ ونسيجٌ بشريٌ يختزن أسئلة الحرية والحياة والكرامة. عندما نطرح مقارنة تاريخية بين معركةٍ طاحنةٍ كستالينغراد ومعركةٍ حاسمةٍ كبرلين، وبين هذا الصراع المعاصر في غزة، فإننا لا نسعى إلى تبسيط الأحداث أو إلى نسخ التكتيكات، بل إلى استخلاص دروسٍ كبرى عن منطق الحرب، عن ثمن الصمود، وعن حدود المشروع العسكري حين يلتقي بالسياسة والأخلاق والإنسان.

أرقامٌ ثقيلة وواقعٌ مختلف

لا يمكن أن نتعامل مع التاريخ إلا وقد سطع في ذاكرتنا ثقل الأرقام ومرارة الخسائر. ستالينغراد وبرلين سجَّلتا خسائر بشرية هائلة بين صفوف الجيوش والمدنيين، وهما مثالان على كيف يمكن للحرب أن تتحول إلى نزيفٍ طويلٍ يؤدي إلى تبدُّل موازين القوى في قارةٍ بكاملها. التقديرات التاريخية لخسائر الطرفين في معارك الحرب العالمية الثانية تُظهِر أرقاماً تتراوح بالمئات والآلاف ومئات الآلاف، ما جعل من تلك المعارك محطات فاصلة في القرن العشرين.
أما غزة اليوم فتعاني حصيلةً إنسانية مروّعة تجاوزت أضعاف كثير من صراعات حديثة، مع أرقام وفيات وإصابات وبدلٍ من دمار للمنازل والبنى التحتية، الأمر الذي يضعها في خانةٍ خاصة من حيث كثافة المعاناة ومدى تأثير ذلك على النسيج الاجتماعي والوجودي لسكانها.

معركة ستالينغراد

من سهوب روسيا إلى شريط ساحلي مكتظ

ستالينغراد وبرلين ليستا مجرد نقطتين على خريطة؛ هما رمزان لمرحلتين من حروب القرن العشرين: الأولى مدينة صناعية على نهر الفولجا، والثانية عاصمة إمبراطورية انهارت. أما غزة فهي شريطٌ ساحلي ضيق، مترامٍ بين محيط من القوى الإقليمية ومتاهة من المصالح الدولية، ومعقلٌ لمجتمعٍ مضغوطٍ بالكثافة والذاكرة والجراح.

الاشتباك في ستالينغراد كان اشتباكاً بين جيوش منظَّمة: الدبابات، المدافع، خطوط الإمداد الواسعة، وفيه لعب الطقس والتضاريس دوراً في تحويل الحرب إلى حصارٍ استنزافي. برلين كانت النهاية الرمزية للحرب في أوروبا، حيث اصطدمت رغبة القادة في استكمال الانتصار بما تبقى من صمود العدو في قلب العاصمة.

هناك عنصران يفصلان تجارب أوروبا عن تجربة غزة: الطبيعة الجغرافية والبيئية — سهوب ومدن واسعة مقابل قطاعٍ مكتظّ —، والسياق السياسي الدولي: في أوروبا كانت هناك دول ومؤسسات متماسكة، بينما في غزة تتداخل سلطة الفعل بشبكات اجتماعية مدنية ومؤسسات جزئية، وتتصاعد التعقيدات الداخلية بين فصائل متعددة. هذه الفروق تفرض قراءة دروس التاريخ بعمق ودون اقتباس حرفي للتكتيكات.

الحرب الاستنزافية والحرب الشعبية

في ستالينغراد، سعت موسكو لإطالة أمد القتال داخل المدينة لتحويل الصراع إلى حرب استنزاف تُنهك قوات العدو وتستنزف لوجستياته وراحته المعنوية. في برلين، كان الهدف أخيراً اقتحام العاصمة لإظهار نهاية المشروع السياسي للمحور. الاستنزاف له منطقٌ حسابيّ: يقيس قدرة الخصم على تعويض الخسائر وإمكاناته الصناعية وتحمل شعبه للحرب.
المقاومة في سياق حضري كثيف السكانية، كما في غزة، تتخذ طابعًا مختلفًا؛ هي ليست حرب جيش مقابل جيش فحسب، بل صراعٌ طويل الأمد ينهل من جذور المجتمع ويتغذى على استمرارية الإرادة. هذا النوع من الصراع لا يعني بالضرورة تكتيكاتٍ محددةً هنا أو هناك، بل يعتمد على القدرة على تحويل التضحيات إلى روايةٍ سياسية وقانونية تستثمر في التعاطف الدولي والضغط السياسي.

الشرعية الدولية والرأي العام: الساحة الثانية للقتال

الحروب لا تُقاس بالأرقام فقط، بل بكيفية قراءة العالم لها. في ستالينغراد، شكلت الرواية السوفييتية عن «دفاع بطولي» عنصراً في تعبئة الداخل. في حالة غزة، المشهد الدولي أكثر تداخلًا: أجهزة إعلامية متعددة، مصالح إقليمية متضاربة، وفضاء رقمي ينقل المشاهد بخطٍ مباشر يمس العاطفة ويشتت الانتباه. ازدياد الخسائر المدنية يحوّل الصراع إلى اختبار أخلاقي وسياسي للرأي العام والدول، ويضع العدو والمقاوم على محك المحاسبة الإعلامية والدبلوماسية.

إدارة السرد السياسي هنا ليست رفاهية بل سلاح؛ وكيفية عرض الوقائع والتعامل مع المشاهد الإنسانية يمكن أن تفتح أبواب الضغوط الدولية أو تُغلقها، وتحدد مسارًا دبلوماسيًا يتجاوز الميدان.

سقوط برلين 1945

الكلفة البشرية والاقتصادية والاجتماعية

حين تتحول الأرض إلى ساحة مستباحة، تخسر الأمة لا الجيش وحده، بل المجتمع بأكمله. البنى التحتية تُدمَّر، الاقتصاد يتعطل، والخدمات الأساسية تتراجع. هذه الكلفة تمتد لعقود: تعليم مقطوع، أمراضٌ مستجدة، وتراجع في قدرات الإنتاج. مثل هذه النتائج تجعل من أي قرار عسكري ضرورةً أن يحسب للتبعات الاقتصادية والاجتماعية بقدر ما يحسب للمكاسب التكتيكية العابرة.

الاستراتيجية السياسية: كيف يُترجم القتال إلى مكسب؟

النصر العسكري وحده لا يكفي لصياغة مستقبل مستدام. التجارب التاريخية تُظهر أن النتيجة السياسية تعتمد على كيفية إدارة اللحظة التي تلي القتال: هل ستكون عملية بناء حقيقية أم احتلالًا طويلًا يفرض واقعاً جديداً؟ ما دور الوسطاء والدول الفاعلة في تحويل نتائج الحرب إلى تسويةٍ قابلة للحياة؟
هنا تكمن أهمية تكامل الخطط العسكرية مع رؤية سياسية واضحة تهدف إلى حماية الإنسان وإعادة البناء، لا إلى إذلاله أو نقض حقوقه.

الأخلاق والقانون: حدود الفعل في زمن الحرب

لا يمكن لأي تحليل استراتيجي أن يتخلى عن واجب الالتزام بالقانون الدولي وبمبادئ حماية المدنيين. تقويض هذه القواعد يضعف المضامين السياسية للمقاومة ويمنح الخصم ذريعةً لتبرير إجراءات قاسية، كما يُعرّي القضية الأخلاقية من مبرراتها. المطالبة بالحرية والكرامة لا تمنح ترخيصًا لإخلال بالمعايير الإنسانية؛ بل تفرض على أصحاب القضية الالتزام بالحدود التي تحمي الناس قبل أي أهداف عسكرية.

الفضاء الإعلامي والدبلوماسي: إدارة السرد كقضية استراتيجية

الحرب تُدار اليوم على ساحات متعددة: الميدان والدبلوماسية وفضاء الإعلام الاجتماعي والإخباري. سرعة نقل المشاهد تُشكّل رأياً دولياً يمكن أن يضغط أو يدعم. لذلك، فإن إدارة السرد السياسي بذكاء ونزاهة أمرٌ لا يقل أهمية عن التدبير العسكري؛ فهي تحدد هوية القضية أمام المحافل الدولية وتؤثر في مسارات الحلول الممكنة.

دعوة إلى حوار خبراء متعدد التخصصات

لا حلّ عسكري محض ولا حلّ سياسي بلا ضمانات إنسانية وأمنية حقيقية. المطلوب تشكيل مجال للحوار يضم العسكريين المخضرمين، القانونيين، خبراء الإغاثة الإنسانية، الدبلوماسيين وممثلي المجتمع المدني. هذا الحوار يجب أن يركز على حماية المدنيين، إيصال المساعدات، فتح قنوات تفاوضية جدية، ووضع خارطة طريق لمرحلة ما بعد الصراع تتضمّن آليات للمحاسبة وشروط للبناء المستدام.

سيناريوهات نهاية المواجهة

التاريخ يقدم ثلاث نهايات رئيسية: نصر حاسم، هزيمة قاطعة، أو تسوية تفاوضية. كل سيناريو يحمل مخاطر وفرصًا. النصر العسكري قد يغير واقع الأرض لكنه غالبًا ما يولد مقاومة جديدة وسياسات مضادة؛ الهزيمة تترك فراغًا سياسيًا لا يملأ إلا بصراعات إضافية؛ أما التسوية—برغم قسوتها—فقد تكون الطريق الأقل كلفةً إن ترافقها ضمانات دولية حقيقية تُحوّل الانتصار المؤقت إلى استقرارٍ مستدام.

بين التاريخ والحكمة والكرامة

ستالينغراد وبرلين درّستا العالم ثمن الحروب الشاملة؛ غزة تُشير إلى كلفة المواجهة في زمننا. وحدها السياسة الواعية الممسوكة بالشرعية الأخلاقية والإنسانية، والمقوّاة بدبلوماسية فعّالة، قادرة على تحويل ثمن الدم إلى رافعةٍ لبناء مستقبل يضيف بدلاً من أن يسلب. أدعو كل من له رأيًا ونفوذًا أن يضع الإنسان في مركز أي قرار، وأن يسهِم في إيقاف نزيفٍ لا طائل منه إلا الموت والهزيمة لكل الأطراف.

https://hura7.com/?p=66822

 

 

الأكثر قراءة