محمد عبد اللطيف
جريدة الحرة ـ بيروت
في لبنان، لا تنتهي الحروب، بل تتبدّل أشكالها. تنطفئ البنادق لتُشعل الأقلام، وتغيب الميليشيات لتحضر الاغتيالات. كأنّ هذا الوطن الصغير كُتب عليه أن يعيش في زمنٍ مؤجّل، يتقدّم خطوة نحو الدولة، ثم يعود مئة خطوة إلى الخلف: إلى الطائفة، إلى الزعيم، إلى الخراب.
وبينما تمر الذكرى الخامسة لانفجار مرفأ بيروت، يعود السؤال لا كذكرى فحسب، بل كصرخة في وجه النسيان: هل ما زال في هذا البلد متّسع للحقيقة؟ وهل ما زالت العدالة تجد موطئ قدم في ركام وطن تعوّد على الدفن قبل الجنازات؟
مع حلول الذكرى الخامسة لانفجار المرفأ، لا تزال بيروت تئنّ تحت وطأة الأسئلة المؤجلة، والعدالة المُعلّقة على مشجب السياسة والمحاصصة والطائفية. لا شيء حُسم، لا مسؤولية أُعلنت، ولا قرار ظني صدر بعد، لكنّ إصرار أهالي الضحايا على الحقيقة ما زال عصيًا على الإخماد، رغم سنوات من الإنكار والتواطؤ.
سؤال: من فجّر المرفأ؟ يتقاطع مع أسئلة أعمق وأقدم: من قتل رفيق الحريري؟ من اغتال بشير الجميل؟ من فجّر ساحة ساسين؟ من أشعل فتيل الحرب الأهلية الأولى؟ من سوّق لصفقة الحرب الأهلية الثانية؟ ومن أدار ماكينة الاغتيالات السياسية التي طالت قادة فلسطينيين ولبنانيين وعربًا، من كمال جنبلاط إلى سليم اللوزي، ومن الأمير الأحمر علي حسن سلامة إلى زوجة نزار قباني؟
هذه الأسئلة تُطرح اليوم بصيغة جديدة بعد التحولات المتسارعة على الساحة اللبنانية، لا سيما بعد رحيل السيد حسن نصرالله، وغياب قيادة حزب الله عن المشهد، وانهيار ما كان يُعرف بـ”دولة الحزب”، وسط أزمة مركبة يعيشها الكيان اللبناني: انهيار اقتصادي، فراغ سياسي، وتآكل في مؤسسات الدولة.
لبنان لم يعد بلدًا مأزومًا فحسب، بل بات كيانًا يتنفس من شقوق الزلازل السياسية والاغتيالات الرمزية، حيث تذوب الفواصل بين الدولة والميليشيا، بين القضاء واللاعدالة، بين التاريخ والتزوير.
إنه بلد عاش كل أنواع الاغتيالات، وكل أشكال التصفيات الجسدية، وخَبِر كل وجوه الخيانة، ومع ذلك ما زال يغنّي لفيروز، ويزرع شجر الأرز في قلب كل طفل، كأن الحياة عنده فعل مقاومة للانكسار، لا مجرّد نجاة.
لقد تحولت بيروت إلى مسرح مفتوح لأجهزة استخبارات إقليمية ودولية، وصار جسدها مثخنًا بشظايا الصراعات: بين سوريا وإسرائيل، بين إيران والخليج، بين الغرب وروسيا، وبين الحلم اللبناني الذي اغتيل مرارًا، ومشروع الطائفية المستمر.
ولأن الذاكرة اللبنانية حافلة بالمجازر غير المحاسبة، والملفات المفتوحة دون مساءلة، فإن انفجار مرفأ بيروت لا يمكن عزله عن سياق طويل من تصفية المعارضين والمفكرين والصحفيين ورجال الدولة، في زمنٍ أصبح فيه الصمت مهنة، والنجاة مشروطة بالولاء.
تمر الذكرى الخامسة لانفجار المرفأ هذا العام على وقع صمت عربي رسمي، وتخلي المجتمع الدولي عن وعوده، وتفكك الداخل اللبناني، حيث تآكلت الثقة بالحقيقة والعدالة. في هذا المشهد، تبدو بيروت كمن يهمس لنفسه في العتمة: هل ستُرفع الحصانات يومًا؟ هل سيُحاسب المتورطون؟ هل ستُفكك منظومة الإفلات من العقاب؟ أم أن لبنان سيبقى مسرحًا لصراعات الآخرين حتى آخر انفجار؟
أخيرًا… لبنان اليوم لا يحتاج إلى معجزة، بل إلى ذاكرة لا تخون، وعدالة لا تخاف، وقضاء لا يخضع.
في حضرة الموتى الذين لم يُدفنوا بعد، والعدالة التي لم تولد، تبقى الأسئلة مشتعلة، ويبقى القلم شاهدًا على زمنٍ تتصارع فيه الروايات، بينما الحقيقة تُدفن في مقابر مؤقتة.
وربما وحدها بيروت، وحدها، تعرف من فجّرها… لكنها صامتة منذ زمن، كأنها تخجل من قول الحقيقة!
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية


