الحرة بيروت ـ بقلم: مو حيدر، الرئيس التنفيذي للشؤون المالية في شركة ديالكسا/تكساس
في بلد مثل لبنان، لطالما أُلبست “الحربقة” ثوب الميزة، بل رُوّج لها كجزء من الهوية الشعبية. لكن السؤال الجوهري يبقى: هل الذكاء يُقاس فقط بالمقدرة على اجتراح الحلول، أم أيضاً بالغاية من استخدامها؟
الذكاء، بمفهومه العلمي، يُقدَّر من خلال مؤشّر الـIQ، أحد أكثر أدوات القياس دقة في تحديد القدرات العقلية للأفراد مقارنة بأقرانهم. هو رقم يُجسّد سرعة العقل في الفهم، ودقّته في التحليل، وفعاليته في حلّ المشكلات المنطقية.
لكن المجتمعات لا تختلف عن بعضها في معدلات الذكاء كثيراً. الفارق الحقيقي لا يكمن في الكمّ، بل في الوجهة: في كيفية توجيه الذكاء واستخدامه. وهنا تتدخل منظومات القيم، والمبادئ، والثقة، كمحددات أخلاقية توجه سلوك الأفراد والجماعات.
الثقة، على وجه الخصوص، ليست مجرّد شعور، بل قوّة جاذبة تحفظ القرار في مساره الأخلاقي، وتمنحه بوصلة الفعل السليم. الذكاء الذي يُستثمر في إنتاج القيمة، وتمكين الآخرين، وترك أثر إيجابي مستدام، هو الذكاء الذي تبنيه الأمم وترتقي به. في المقابل، حين يُوظَّف الذكاء لتجنب الجهد، أو للتلاعب، أو لنيل ما لا يُستحق، يتحوّل من نعمة إلى نقمة — إلى ما يُعرف في الثقافة الشعبية اللبنانية بـ”الحربقة”.
الحربوق، في المخيال العام، يُصوَّر على أنه “شاطر”، يعرف من أين تُؤكل الكتف. غير أن هذه الصورة، رغم طرافتها، تخفي انحرافاً خطيراً في فهم الذكاء: فهي تُمجّد الخدعة على حساب الضمير، وتمنح المكر شرعية على حساب المبدأ.
هي تلك الذهنية التي ترى في سرقة الكهرباء “شطارة”، فيُظلم وطنٌ بأكمله بظلامها. هي ذاتها التي تُدخل الفاسدين والعديمي الكفاءة إلى مفاصل القرار، فتنقلب الدولة من خادمة للناس إلى عبء عليهم، ويتحوّل القطاع العام إلى مرآة لانحدار المعايير.
لبنان لم يصمد بالحربقة، بل صمد رغمها.
ما حفظ هذا البلد من الانهيار الكامل ليس التحايل، بل العمق الأخلاقي لثقافة العمل، ونزاهة التجارة، والقدرة التاريخية على خلق قيمة حقيقية. هي ثقافة مغروسة في وجدان اللبنانيين منذ فجر التاريخ — من الفينيقيين البحّارة والتجّار والبنّائين، الذين لم يوسعوا نفوذهم بالحيلة، بل بالثقة والرؤية والابتكار.
اليوم، ثمة حاجة ماسّة إلى استرداد هذه الهوية الأصيلة.
أن نربّي أبناءنا لا على التذاكي على الغير، بل على ذكاء نزيه يخدم هدفاً أكبر من الذات. أن نبني مؤسسات تكافئ الشفافية والكفاءة، لا المحسوبيات والمراوغة. وأن نُعيد الاعتبار إلى الذكاء الذي ينهض بالمجتمع، لا ذلك الذي يتحايل عليه.
لأن الأوطان لا تُبنى بالحربقة، بل تُبنى بالأخلاق، وبضمير حيّ، وبذكاء يرفع الناس، لا يستغلّهم.