الحرة بيروت ـ بقلم: مو حيدر، الرئيس التنفيذي للشؤون المالية في شركة ديالكسا/تكساس
في الأزمات الكبرى، يسهل على الإنسان أن ينجرف مع تيار الأغلبية، أن يتبنى السرد الشعبي والآراء الغاضبة التي تطغى على الواقع. من الصعب، بالمقابل، الوقوف أمام العاصفة، والبحث عن الحقيقة المنتجة لحلول جدّية. حينها يصبح الغضب أسهل من التفكير المتزن. في أوقات الحرب والانهيار، غالبًا ما يهرب الناس إلى العواطف الحارقة التي يسهل حملها بدلًا من مواجهة الحقائق القاسية. ولكن، أين تكمن الحياة الحقيقية في ظل هذا الانهيار؟
الحياة هي الأم
الأم اللبنانية ليست مجرد صورة تقليدية لرعاية الأسرة؛ إنها عمود البيت وسند الحياة، ومهندسة الصمود في مجتمع تتوالى عليه الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. الأمهات في لبنان يحملن أثقالًا لا تحتمل، ويمارسن أدوارًا بطولية في صمت، من دون أي دعم أو تقدير حقيقي.
فماذا تريد الأمهات حقًا؟ إنهن يسعين خلف ما سُلب منهن: الأمن، الكرامة، ومستقبل أبنائهن. ومع ذلك، يجدن أنفسهن عالقات في وطن يخذلهن عند كل منعطف. هن مهندسات الحياة، يقدمن التضحيات الكبرى، يربين أبناءهن بأيدٍ خالية إلا من الأمل على مبادئ الحب والصمود واللطف كما يحملن على عاتقهن همومًا اقتصادية واجتماعية تتفاقم كل يوم.
في لبنان، تحولت الأمومة إلى فعل مقاومة يومي. كم من الأمهات سهرن على أطفالهن رغم الظلام المادي والمعنوي ليرينهم يُدفنون قبل الأوان؟ كم منهن وقفن أمام أبواب المستشفيات باكيات يصلين للحصول على دواء اختفى؟ وكم منهن طهين الوجبات بأيدٍ مرتجفة تحت وطأة الفقر، ومع ذلك استمررن بالعطاء؟ كم منهن قضين الليالي وهن يخطن الأمل في الأحلام المحطمة ليستيقظن على حكومة وأحزاب تخلت عنهن؟ يرسلن أبناءهن إلى المدارس إيمانًا منهن بمستقبل لا يأتي أبدًا؟
خيانات متعددة ومسيرة بلا نهاية
ولكن، من يردّ لهن الجميل؟ لقد خذل الوطن أمهاته. تآمرت عليهن الحكومات المتعاقبة، وعمّقت الأحزاب الطائفية من معاناتهن بوعود فارغة سرقت مستقبل أطفالهن. وفي ظل اقتصاد يتهاوى، صار الوطن أشبه بنسر جائع ينهش ما تبقى من الطبقات الضعيفة، ليجبر الشباب على الهجرة، تاركين خلفهم أمهات ثكالى يحتضن صورًا قديمة بدلًا من الأحضان الدافئة.
في لبنان، الأمومة ليست فقط حكاية تربية وحب، بل هي قصة صمود أمام آلة الفقر والحرب والهجرة. الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن للحرب، أو للجوع، أو للبحر أثناء محاولتهم الهروب من وطن لم يعد يحتضنهم، هن الشاهدات الصامتات على مأساة وطن تتآكل أسسه.
لكن، ورغم هذا المشهد القاتم، تظل الأمهات رمزًا غير معلن للعدالة الاجتماعية. فالعدالة التي تنشدها الأمهات ليست مجرد شعارات سياسية؛ إنها عدالة ترتكز على الحق في حياة كريمة، في تعليم جيد، وفي أمان لا تهزه الأزمات الطائفية والاقتصادية.
ربما يأتي التغيير الحقيقي حين يسمع المجتمع صوت أمهاته، ذلك الصوت الذي يتحدث عن آمال تتجاوز الشعارات السياسية إلى مطالب حقيقية بالبناء، والحياة، والمستقبل. ففي النهاية، لا يمكن لوطن أن ينهض إن كان قد أدار ظهره لأعمدة بيته الأساسية: الأمهات.
.