الأحد, نوفمبر 9, 2025
21.4 C
Beirut

الأكثر قراءة

إصدارات أسبوعية

نحن أبناء المطر المكسور… وأرض الطين المسكوت عنه

محمد عبد اللطيف

 

جريدة الحرة ـ بيروت

عندما يسقط المطر، كنا ننتظر أن تنبت شجرة، شجرة واحدة فقط نستظل بها من حرّ هذا الوطن المتعب. لكن الشجرة لم تولد، والمطر لا يسقط كما يجب.

هل وُلدنا في لحظة شروقٍ مرتجف؟ أم في وقت الغسق؟ أم أننا وُلدنا ذات مساء من أمطارٍ مكسورة، لا تغسل الروح، ولا توقظ الأرض، بل تبلل جدران العجز، وتوقظ أحلامًا انتهت قبل أن تبدأ؟

في دلتا مصر، نتأمل حال الطقس كما نتأمل حال الأمة. على سرير الموت، ننتظر أن تفيق، أن تسعل، أن تفتح عينيها. لكن لا صوت، لا رعشة، لا مؤشر حياة. فالمطر – حين يسقط – لا يحمل الحياة، بل يوقظ الوحل، ويجعل الطرقات مستحيلة.

نحن لا نعرف كيف نمشي في الوحل، لا نملك الأحذية التي تقاوم الطين، ولا القلوب التي تعرف الاتجاه. نمشي في أماكننا، كأننا نراوح بين ذاكرة متخمة،

وحاضر هش، ومستقبل يتبخر كالبخار فوق نارٍ باردة.

في سوريا، المطر يسقط على الأنقاض لا على الشرفات، على حلب التي نُكبت مرّتين: مرة بالقصف، ومرة بالصمت.

أما لبنان، فالمطر يسقط على نوافذ موصدة بالحسرة، في بلد أنهكه الحصار الداخلي قبل الخارجي، بين طبقة سياسية لا ترى، وشعب لا يملك إلا الأغاني.

في العراق، المطر يغسل أسماء الشهداء من جدران الأزقة، لكنه لا يزيل عار الطائفية، ولا يزرع شجرة واحدة في أرضٍ مزقتها الميليشيات. بلد خرج من رماد الاحتلال ليعود إليه بأقنعة أخرى، ومؤسسات لا تجيد سوى إنتاج الخوف والخذلان.

في اليمن، يسقط المطر على مدن ممزقة، بين أجساد تنام على أكفان الانتظار، وأحلام تبحث عن وطن في كيس قمح أو في بطاقة مساعدات.

من صنعاء إلى عدن، لا مطر يشبه المطر، ولا سماء تُشبه السماء…،

في السودان، المطر يسقط على ضفاف النيل المحمّل بالدم، على الخرطوم الممزقة بين جنرالات لا يحكمون، وشعب لا يُحكم، ولا يُنقَذ، بلد غرق في فوضى التاريخ، وخرج من الثورة إلى الفوضى بكل ما تحمله من رماد.

في غزة، يسقط المطر بين قصفين، على أبواب المستشفيات، وعلى عيون الأطفال، ولا فرق بين المطر والدمع، فكلاهما يسيل، ولا أحد يمسحه.

أما ليبيا، فالمطر هناك ضائع بين الشرق والغرب، هل يسقط على طبرق كما يسقط على مصراتة؟ أم أنه – كما المواطن – يبحث عن ريح أخرى؟ في أرضٍ لم تعد تعرف هويتها، ولا تتفق حتى على شكل السماء.

المطر في بلاد العرب ليس هبة، بل تذكرة مبللة بأننا على حافة الجرح، وأن كل مواسمنا مغشوشة، وأننا لا نولد في الضوء، بل في كواليس العتمة.

كل بلدٍ في هذه الرقعة الجريحة يحمل ذاكرته الخاصة مع المطر. لكن الذاكرة لا تُشعل مدفأة، ولا تمنح مظلة، ولا تزرع حقلاً في أرضٍ ملوثة بالبكاء.

هل سمعنا المطر مرةً وهو يعتذر؟

هل سألناه: لماذا تسقط في وقت الخطأ؟ لماذا لا تأتي حين يحتاجك القمح، لا حين تحتاجك النشرات الجوية؟

في دلتا مصر، نرى المطر يسقط على قبور باردة، وعلى نخيل بلا ظل، وعلى رجال ينتظرون من يحرث الوعي.

نسأل أنفسنا في صمتٍ مرير: هل ما زالت السماء تعرفنا؟ هل هذه الأرض، بكل تاريخها، تنتظر مطرًا جديدًا أم قيامة من نوع آخر؟

نكتب عن المطر، لأننا لا نستطيع أن نكتب عن الشمس، الشمس تحرقنا، والمطر يبلّل جروحنا دون أن يداويها.

وأخيرًا… لقد فقدنا الأمل، نحن أبناء الغيوم، أبناء العتمة، أبناء الأرض الموحلة بالطين المسمم من البارود ومخلفات الحروب، ننتظر المطر، لكن المطر لا يأتي. ونمشي في الوحل، لكن لا طريق.

ماذا يكتب عنا الطقس؟ هل يكتب عنّا قصفًا ورعدًا وبرقًا؟ أم يكتب عنّا قصفًا فقط؟ هل الطقس يعكس حقيقتنا؟ أم يتستر على عجزنا؟

حقًا، أيها السادة، وعذرًا لمذيع نشرات الطقس… إنه زمنٌ رديء، والأرض مثقلةٌ بالموت المتأخر.

كاتب وباحث في الشأن الجيوسياسي والصراعات الدولية

https://hura7.com/?p=63041

الأكثر قراءة