“نكبة أيلول”: لبنان رهينة المقايضات الكبرى والقرارات الدولية المعطّلة
ليس ثمة حاجة للأرقام للتدليل على وحشية إسرائيل وهمجيّتها. لكن الأرقام قد تعيننا بعض الشيء على إدراك تراجيدية ما يحدث. عدّاد القتل في حرب الأخيرة الدائرة مع “حزب الله” منذ أيام تجاوز لبنانياً حتى الساعة الـ600 والإصابات تعدّت الـ5 آلاف. الأرقام تستحيل على فظاعتها، كما في كلّ مرة، مجرّد حبر على ورق. ثم، بحسب وزير الخارجية اللبناني، ناهز عدد النازحين من قرى جنوب لبنان وبقاعه النصف مليون. بينما تشير التقديرات إلى نزوح زهاء 22 ألف شخص باتّجاه سوريا، معظمهم من اللبنانيين. أما النازحون السوريون، فينتقلون إلى مراكز الإيواء رافضين العودة إلى ديارهم.
طبياً وحياتياً، أطلق الصليب الأحمر اللبناني صرخة حيال انخفاض ملحوظ في مخزون الدم لديه، ما ينعكس سلباً على إمكانية تلبية حاجات المستشفيات (المأزومة هي الأخرى) في ظلّ الواقع الراهن. في حين لفت المفوّض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) إلى أن المنظمة تواجه مأساة في غزّة والضفة الغربية وتعاني من عجز مالي حادّ يمنعها من تكبُّد ضغوط إضافية في لبنان.
هي المأساة التي لا تنفكّ تتكرّر. فحرب تموز 2006 لا تزال شاخصة في الأذهان. لماذا، والحال كذلك، الإصرار على إغراق لبنان (الغريق حتى النخاع أصلاً) بحروب ذات أبعاد خارجية أكثر منها داخلية قد يخرج منها هو الخاسر الأكبر؟ وبأي منطق، يسأل السائل على وقع القتل والدمار، يفتح “حزب الله”، في ظلّ بلد منهار اقتصادياً وشغور رئاسي وحكومة مستقيلة، حرباً ترفضها شريحة واسعة من اللبنانيين؟
منذ اتفاقية الهدنة العام 1949 وحتى نهاية ستينيات القرن الماضي نعمت الحدود اللبنانية تحت سلطة الجيش اللبناني بالأمان والسلام. لكن ذلك يبدو للناظر زمناً سحيقاً. إذ جاء إطلاق الفلسطينيين العام 1969 لكفاحهم المسلّح وما تبعه ليعطي عذراً لإسرائيل – التي لا تحتاج عدوانيّتها إلى كثير أعذار – لضرب لبنان واحتلاله. وجاء توقُّف الحرب الأهلية عسكرياً العام 1990 (واستمرارها بأشكال أخرى) ليرفع “حزب الله”، تحت راية المقاومة الإسلامية في لبنان، شعار إلزامية سلاحه بحجة عدم قدرة الجيش اللبناني على مواجهة إسرائيل ووقوف مؤامرة دولية بوجه تسليحه. أما تحرير الجنوب العام 2000، فأسقط حيّزاً عريضاً من الذرائع، لا سيّما في ظلّ وجود اتفاقية ترسيم حدود تنظم العلاقة مع إسرائيل وتفرض لزاماً تولّي السلطات اللبنانية شؤون الدولة بما يتعلّق بتنفيذ مندرجاتها.
مرّت الأيام ولم يتبدّل تجاهُل المقاومة الإسلامية، من منطلقات عقائدية وأخرى ذات صلة بعلاقتها العضوية مع إيران، للدولة. وفي خضمّ لعبة شدّ حبال استراتيجية تدور رحاها على مستوى الإقليم، لم تبرح إسرائيل تسوّغ الذرائع لتدمير لبنان بما ومن فيه، ضرباً للمقاومة في الظاهر وانقضاضاً على رفاة دولة ميّتة سريرياً في الباطن.
نعود إلى ما يجري اليوم. فباعتراف “الحزب”، ليست الخسائر على صعيد استهداف كوادره ونخبه القيادية قليلة الأثر. ومن مجزرة “البيجرز” إلى الاغتيالات المركّزة، تتّخذ الاستهدافات أبعاداً تكنولوجية – استخباراتية غير مألوفة بغضّ النظر عن العمليات العسكرية التقليدية التي يسقط جرّاءها مدنيّين بأعداد متزايدة.
لكن المفارقة أن الحرب، بانتقالها من ملعب مساندة غزّة إلى الساحة اللبنانية البحتة، تتزامن مع غياب ملحوظ للتدخّل الإيراني الموعود، وسط تصريحات رسمية تفيد برغبة إيران في تجنُّب حرب مباشرة مع إسرائيل. لا بل لجأ رئيسها، مسعود بزشكيان، إلى عبارات على شاكلة “الأخوّة” في توصيف العلاقة مع الولايات المتحدة التي تتوالى المفاوضات النووية معها فصولاً في الأثناء. يأتي ذلك في وقت تتعرض “درّة تاج” الاستراتيجية الإيرانية في الإقليم لأسوأ خرق أمني وهجوم عسكري إسرائيلي. وهنا ثمة من يتساءل إن كان مرجع “الحزب” مستعدّاً لطرح حيثيّته كبند تفاوضي في المحافل الدولية والغرف المغلقة.
وهذا ليس بغريب على السياسة الدولية بصورة عامة. فمنذ انتصار ثورتها، لم تتوانَ الجمهورية الإسلامية في إيران على عقد صفقات خارجية – حتى مع الولايات المتحدة وإسرائيل – متى اقتضت ضروراتها التكتيكية والاستراتيجية. من الصفقة مع الجمهوريين الأميركيين العام 1979 للإبقاء على رهائن السفارة الأميركية في طهران إلى ما بعد إفشال الديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية؛ مروراً بصفقة بيع إسرائيل أسلحة لإيران في حربها مع العراق خلال فترة حكم صدّام حسين مقابل تزويد الثانية للأولى بإحداثيات لقصف “مفاعل تموز” العراقي النووي؛ وليس ختاماً بالأقمار الاصطناعية الإسرائيلية التي استخدمتها إيران لبثّ برامج ذات توجّهات دينية – عقائدية بعد رفْض أقمار عربية استضافة قنواتها، والتبادل التجاري الصامت بينهما من خلال أكثر من 200 شركة، خصوصاً في مجالات الزراعة والاقتصاد والصناعة والتكنولوجيا.
لكن، إذا كان الهدف الإسرائيلي الثلاثي الأبعاد يتمثّل بغزّة، ولبنان والملف النووي الإيراني، فقد نجحت إسرائيل في تقويض قوة “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، وهي تمعن حالياً في توجيه ضربات مؤلمة لـ”حزب الله” لتأمين منطقة آمنة في جنوب لبنان لإعادة مستوطنيها إلى الشمال. أما في إيران، فهي توظّف البعدين السيبراني والأمني، تحجيماً لقدرات طهران وتهشيماً لصورة ردعها، حيث جاء اغتيال رئيس المكتب السياسي لـ”حماس”، اسماعيل هنية، في عقر دارها كأحدث الأمثلة على ذلك.
في هذا السياق، قد يكون شيء من هذا كلّه ما دفع بالرئيس الإيراني للتوجّه مؤخّراً إلى الأميركيين بلغة الأخوّة والسلام للتأكيد على أن ملف بلاده النووي يقتصر على الأغراض السلمية. لكن بشرط: الحفاظ على “حزب الله” في الداخل اللبناني كونه الذراع الأكثر فعالية في تنفيذ استراتيجيات الجمهورية الإسلامية في لبنان والمنطقة.
يذهب المحلّلون إلى أن إيران تقايض الولايات المتحدة على ملفها النووي، ما يمنعها من التورط في الحرب وترْك “الحزب” يتدبّر أموره دون التعويل على أي تدخُّل مباشر منها. غير أن ما يعني إسرائيل بالدرجة الأولى، على لسان مسؤوليها، هو تراجُع “الحزب” مسافة لا تقلّ عن 10 كلمترات من الخط الأزرق مع ضمانات أميركية – إيرانية لفرملة توسُّعه. ففي ظلّ لعبة المصالح الكبرى بأثمانها الداخلية الباهظة، هل من حلّ لبناني مطروح للمرحلة المقبلة؟
الأزمة، كما يعتقد كثيرون، أكثر تعقيداً من أن تُعالج محلياً. فللولايات المتحدة والدول الغربية دور أساسي تلعبه ممارسةً للضغط من قِبَل الأولى على “حزب الله” من خلال إيران، وضماناً من المجموعة الثانية لتنفيذ القرار 1701 وتفويض الجيش اللبناني وقوات “اليونيفل” بضبط الحدود بعد أن تستكين “المدافع”.
لكن، أين نحن من توفير الضمانات الداخلية التي تطلبها هذه الدول؟ من تشكيل سلطة متوازنة قادرة على قول كلمتها – أي انتخاب رئيس وسطيّ للجمهورية ومنحه صلاحية تشكيل حكومة تكنوقراط تتجاوز الخلافات الطائفية والسياسية – والقبول بدور أساسي لـ”اليونيفيل”، وتوسيع سلطة ومهام الجيش اللبناني وتأهيله لضبط الحدود. فهل يدعو رئيس المجلس النيابي، نبيه بري، وهو الناشط حالياً على خطّ مفاوضات وقف إطلاق النار، إلى عقد جلسة لانتخاب رئيس بعيداً عن عبثية “جلسات الحوار”، بعد انتزاع قبول “الحزب” بذلك؟
الأجوبة تبقى رهن نتائج الحرب الدائرة. صحيح أن “حزب الله” يوجّه بدوره ضربات مؤلمة للغاية، مادياً ومعنوياً، في العمق الإسرائيلي، لكنه يتصرف حتى اللحظة وفق موازين القوى وليس مقتضيات الوفاق الوطني المفقود والذي هو صمّام أمانه وأمان جميع اللبنانيين الأوّل.
في قول منسوب للمنظّر العسكري كارل فون كلازوفتش، “الحرب هي امتداد للسياسة لكن بوسائل أخرى”. نكبة الدم والدمار وتساقُط الضحايا – الأحياء منهم والشهداء – تُدمي القلب والعين. وقد لا تفارقنا بأي وقت قريب. فهل تحطّ الحرب أوزارها فاتحة كوّة في جدار الانسداد الوطني والسياسي الذي لا يقلّ ضراوة؟