جريدة الحرة ـ بيروت
جورج فريدمان
عن Geopolitical Futures – ترجمة
طوّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب نموذجاً واضحاً في مقاربة العمل الدبلوماسي يقوم على مرحلية حادة تبدأ بفرض مطالب صريحة على الدول الأخرى، يليها دعوة إلى التفاوض. فإذا لم تُجرَ المفاوضات، أو لم تُسفر عن قدْر من التفاهم أو التنازل، يعمد ترامب إلى اتخاذ إجراءات عقابية. وعلى امتداد هذا المسار، يعتمد ترامب سياسة مزدوجة: التهديد والتصعيد، من جهة، والإطراء والتحفيز، من جهة مقابلة، في محاولة لدفع الطرف الآخر إلى التفاعل مع المبادرة وفق ما يخدم المصلحة الأميركية.

وقد برز هذا النموذج بوضوح خلال المواجهة الأخيرة مع إيران. إذ طالب ترامب طهران بالتخلي عن برنامجها النووي، ملوّحاً بعواقب وخيمة في حال عدم الامتثال. ثم دخل في مفاوضات غير مباشرة معها، مشيراً علناً إلى أن هذه المحادثات تُبشّر بالخير. وفي لحظة محددة، وضع مهلة زمنية لإنهاء التفاوض، وما إن انقضت المهلة بلا نتيجة ملموسة، حتى نفّذ ضربة عسكرية نوعية ضد أهداف إيرانية.
النموذج ذاته يتكرر في ملف حلف شمال الأطلسي (الناتو). فقد بدأ ترامب بمهاجمة أداء الحلف، معتبراً أن الأخير لا يفي بالتزاماته العسكرية، ما حمّل الولايات المتحدة العبء الدفاعي الأكبر. وأشار بوضوح إلى أن هذا الواقع لم يعد مقبولاً، ملمّحاً إلى احتمال انسحاب أميركي من الحلف إذا لم تتحمّل أوروبا مسؤولياتها المالية والعسكرية. تلت ذلك مفاوضات مكثفة، لم تخلُ من تحذيرات متكررة من ترامب. والحال أنه في اجتماع الناتو الأخير، أعلنت الدول الأوروبية التزامها بزيادة إنفاقها الدفاعي ليصل إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي. وهو ما دفع ترامب للثناء على شركائه، مؤكداً التزام بلاده المستمر بالحلف.
في كلا الحالتين، اعتمد ترامب المعادلة عينها: مطلب جريء؛ تفاوُض حاد؛ تلويح باتخاذ تدابير متطرفة إن فشلت المحادثات؛ واستعداد للمصالحة إن هي أفضت إلى نتيجة. وبينما انتهت المقاربة بضربات جوية بما خصّ إيران، أسفرت عن تسوية وتعديل في السلوك الأوروبي على صعيد الناتو.

ظهر النمط ذاته من خلال جهود ترامب لإعادة تشكيل النظام التجاري العالمي. فالبداية كانت صادمة، إذ تمثلت بفرض رسوم جمركية مرتفعة جداً على نطاق عالمي. ثم تلا ذلك انفتاح من جانب ترامب على الدخول في مفاوضات ثنائية، على قاعدة “كل دولة على حدة”.
أما في حالة روسيا وأوكرانيا، فقد اتّبعت الإدارة نهجاً مماثلاً بدأ بصدمة جديدة – كانت موجّهة، هذه المرة، إلى كييف. إذ أعلنت واشنطن استعدادها لتقليص، إن لم يكن التخلي عن، دعمها لأوكرانيا. عقب ذلك، سعت إدارة ترامب إلى فتح قنوات تفاوُض مع موسكو، مبدية استعداداً مفاجئاً لقبول تسوية على حساب أوكرانيا. والهدف من هذه الصدمة لم يكن التخلي التام عن كييف، بل محاولة تبديد المخاوف الروسية المرتبطة بأداء موسكو المتراجع في أوكرانيا، وإيصال رسالة مفادها أن واشنطن لا تنوي استغلال تلك الهشاشة لصالحها. بل على العكس، أرادت الإدارة الأميركية أن تُفهم موسكو بأنها مستعدة لطرح سلّة منافع اقتصادية مقابل الانخراط في تسوية.
طالب ترامب بالمباشرة بمفاوضات تفضي إلى إنهاء الحرب. وفي خضم المبادرة، تلقّى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ثلاث رسائل أساسية:
أولاً، أن الولايات المتحدة لا تُعير مستقبل أوكرانيا اهتماماً حاسماً؛
ثانياً، أن الفشل العسكري الروسي في أوكرانيا غير مقبول بالنسبة للولايات المتحدة؛ وثالثاً، أن لامبالاة ترامب بمصير أوكرانيا، إلى جانب عدائه المعلن لحلف شمال الأطلسي، منح بوتين وقتاً ثميناً لتحسين موقعه في الميدان.

خلص بوتين إلى أن الحرب لا يمكن أن تنتهي عند المستوى المحدود من النجاحات التي حققها، وأن الموقف الأميركي من الناتو، إلى جانب رغبة ترامب في تسوية سريعة، إنما يُشكّلان فرصة استراتيجية.
ومن اللافت أن جهود إنهاء الحرب الأوكرانية تتقاطع اليوم مع التحوّلات الجارية في الناتو. فأحد أبعاد مصالحة ترامب مع الحلف يتمثل بعامل الخوف: خوف موسكو من تحرّك الناتو ضدها؛ وخوف أعضاء الحلف من عدوانية روسيا. ومن هذا المنطلق، يمكن لموقف ترامب الجديد تجاه الناتو أن يُغيّر المعادلة في الحرب، إذ قد تجد روسيا نفسها أمام خطر تدخُّل عسكري موحّد من الحلف، أو أمام منْح أوكرانيا مساعدات ضخمة ومنسّقة.
إن رفض بوتين التفاوض في مراحل سابقة كان مدفوعاً جزئياً بتشظّي الموقف الأطلسي. لكن هذا الواقع بات مختلفاً اليوم، حيث أصبح على الكرملين أن يُعيد الحسابات على ضوء المعادلة الجديدة التي تضع الولايات المتحدة داخل سرب أطلسي واحد. ومع هذا “الانسجام غير المسبوق” داخل الحلف، قد يجد بوتين نفسه مضطراً إلى التفاوض – تماماً كما أراد ترامب منذ البداية.
ليست هذه سوى نماذج معدودة، لكنها ذات دلالات بالغة الأهمية. فالدبلوماسية التقليدية تسعى، في جوهرها، إلى بناء علاقات مستقرة وقابلة للتنبؤ بين الدول، وتتحاشى المفاجآت والتهديدات باعتبارها عوامل مُربكة ومزعزعة للاستقرار.
أما النموذج الترامبي في العمل الدبلوماسي، فيقلب هذه القواعد رأساً على عقب. إذ إنه يقوم على إدخال الصدمة واللايقين كركيزتين أساسيتين في إدارة العلاقات الدولية، ويعتمد بوضوح على التهديدات الصريحة أو المضمَرة، سواء العسكرية أو الاقتصادية منها، باعتبارها أدوات مشروعة في مسار التفاوض.
طبعاً، لا تزال الحالة روسيا وأوكرانيا مفتوحة على احتمالات عدّة، والبعد الاقتصادي فيها لم يبلغ طور النضج الكامل بعد. لكن مع ذلك، يمكن القول إن ملامح نموذج دبلوماسي جديد بدأ يتبلور من خلال ممارسات ترامب. وهو نموذج يبتعد عن الأعراف الدبلوماسية السائدة، ليؤسّس لأسلوب تصادمي – تفاوضي. نموذج يراهن على الضغط العالي والتقلب كوسيلة لإعادة رسم قواعد اللعبة الدولية.


