الأربعاء, مايو 21, 2025
14.1 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

هكذا فسّر كمال ديب أزمة بنك إنترا

جريدة الحرة

ـ بقلم: سيرجيو عون، باحث مستقل ومؤلّف كتاب “The Daily Rebel”

يُعدّ انهيار بنك إنترا عام 1966 من أبرز المحطات المفصلية في التاريخ الاقتصادي الحديث للبنان، نظراً لكونه آنذاك أكبر مؤسسة مالية في الشرق الأوسط. وقد شكّل هذا الانهيار صدمة عميقة هزّت أركان القطاع المالي اللبناني وأعادت رسم ملامح الثقة المصرفية والرقابية في البلاد.

لكنّ تداعيات هذه الأزمة تجاوزت البُعد المصرفي، لتسلّط الضوء على اختلالات بنيوية كامنة في النظامين الاقتصادي والاجتماعي، فضلاً عن هشاشة الإطار السياسي اللبناني في تلك المرحلة.

وانطلاقاً من الدراسات المرجعية التي قدّمها الباحث كمال ديب في كتابه الرائد “أمراء الحرب والتجار”، نستعرض في هذا المقال الجذور التاريخية لأزمة بنك إنترا، وأسبابها البنيوية، ونتائجها المعقّدة. كما نضيء على ما كشفت عنه هذه الأزمة من دروس جوهرية تتصل بإدارة المخاطر، وانتشار الفساد، وترابط علاقات النفوذ بالتمويل في لبنان.

فهم أصول بنك إنترا

تأسس بنك إنترا في عام 1951 على يد المصرفي الفلسطيني يوسف بيدس، الذي انتقل إلى بيروت بعد النكبة الفلسطينية في عام 1948. وسرعان ما نجح بيدس في تحويل البنك إلى قوة مالية كبرى، مستفيداً من استراتيجياته المبتكرة ورؤيته التجارية الثاقبة. وقد شملت هذه الاستراتيجيات عدة محاور رئيسية:

  • تنويع الاستثمارات في قطاعات متعددة مثل العقارات، والذهب، والمشاريع الاستراتيجية مثل خطوط طيران الشرق الأوسط وصناعات الترفيه.
  • جذب الأموال العربية النفطية واستقطاب الودائع من دول الخليج العربي وأثرياء المنطقة.
  • توفير خدمات مصرفية خاصة ومميزة، مثل السحب النقدي الفوري للعملاء المميزين، دون الحاجة إلى الإجراءات البيروقراطية المعتادة.

في ذروة قوته، سيطر بنك إنترا على 60% من إجمالي الودائع المصرفية في لبنان، ليصبح رمزاً رئيسياً للازدهار المالي الذي شهدته البلاد. ومع ذلك، لم يكن هذا النمو السريع خالياً من التحديات والمخاطر.

وجهة نظر كمال ديب في الانهيار

بدأ المؤرخ والاقتصادي الكندي اللبناني كمال ديب دراسته المتعمقة لأزمة بنك إنترا في عام 1995، حيث قدّم في كتابه “أمراء الحرب والتجار” تحليلاً نقدياً للعب دور المؤسسات المالية في تاريخ لبنان. ومن خلال هذا العمل، يتحدى ديب الروايات التقليدية التي تناولت انهيار بنك إنترا، ويعرض زاوية جديدة من التحليل.

يشكك ديب في الصورة النمطية التي رسخت عن يوسف بيدس كمصرفي متهور وغير أخلاقي. وفي مقابل ذلك، تكشف أبحاثه عن واقع أكثر تعقيداً يشتمل على التلاعب السياسي، والفساد المنهجي، والصراعات العميقة على السلطة بين النخب اللبنانية، ما يفتح المجال لفهم أوسع وأعمق للأزمة.

من هو كمال ديب؟

يُعدّ كمال ديب باحثاً مرموقاً متخصصاً في البحوث الاقتصادية والاجتماعية، وقد نشر أكثر من 20 كتاباً خلال مسيرته المهنية. من بين هذه الأعمال، برزت ثلاثية تناولت شخصيات مؤثرة مثل يوسف بيدس، روجيه تمرز، ورفيق الحريري. ومن خلال هذه الكتابات، يسلّط ديب الضوء على التشابك المعقد بين أمراء الحرب والتجار، ويكشف عن دورهم في تشكيل العمود الفقري الاقتصادي للبنان المعاصر.

ماذا عن رؤيته الجوهرية؟ يعتقد ديب أن انهيار لبنان لم يكن نتيجة “رجل واحد أو بنك واحد”، بل هو ثمرة فشل نظامي عميق، تغذّى من الجشع، وصراعات السلطة، والمصالح النخبوية التي أدت إلى تدهور الوضع الاقتصادي والسياسي.

أسباب الانهيار

لم يأتِ انهيار بنك إنترا في سياق معزول، بل كان نتاجاً لتشابك معقّد بين القوى السياسية والاقتصادية والتنظيمية التي شكلت القطاع المالي اللبناني. لفهم هذه الأزمة، من الضروري دراسة المحركات السياسية والاقتصادية والتنظيمية التي ساهمت في تدهور الوضع المالي في تلك الفترة.

  1. معارضة هياكل القوة النخبوية

من الأسباب الجوهرية لانهيار بنك إنترا، المعارضة الشديدة التي واجهها يوسف بيدس من النخب السياسية والتجارية اللبنانية. فقد أثار صعوده السريع وهيمنته على القطاع المصرفي اللبناني استياء العديد من القوى التقليدية التي كانت تحكم المشهد الاقتصادي، واستُخدم نفوذ هذه القوى لتقويض مكانة بنك إنترا.

تشير بعض المصادر إلى أن عائلات نخبويّة نسّقت جهوداً لإضعاف موقع بيدس. كما تُظهر الأدلة أن شخصيات سياسية مارست ضغوطاً على دول الخليج لسحب ودائعها من البنك، مما أدى إلى تفاقم أزمة السيولة فيه.

  1. استراتيجية استثمار محفوفة بالمخاطر

اتسمت رؤية بيدس الطموحة بالاستثمار طويل الأجل في أصول غير سائلة، مثل العقارات والمشاريع الثقافية والفنية. وعلى الرغم من أن هذه المشاريع كانت تتمتع برؤية مبتكرة، مثل دعم صناعة الأفلام وتطوير شبكات الطيران في لبنان، إلا أنها عرّضت البنك لمخاطر مالية كبيرة.

  1. غياب الضمانات التنظيمية

في الستينيات، كان الإطار التنظيمي اللبناني يعاني من ضعف شديد. فقد تأسس مصرف لبنان المركزي في عام 1964، أي قبل انهيار بنك إنترا بسنتين فقط. وكانت البنوك التجارية تعمل في بيئة من دون مستوى مناسب من المساءلة، بسبب غياب الرقابة الفعالة. كما رفضت الحكومة والبنك المركزي تقديم الدعم الطارئ لبنك إنترا، ما أسهم في تفاقم الأزمة، وبالتالي انهياره.

  1. العنصرية النظامية والخصومات السياسية

يبرز كمال ديب عاملاً هاماً غالباً ما يُغفل في تفسير الأزمة، وهو الأصول الفلسطينية ليوسف بيدس في لبنان. فقد استخدمت النخب اللبنانية هذه الخلفية كذريعة لتشويه سمعة بيدس، ما فاقم من انعدام الثقة بين الفئات الاجتماعية والسياسية في تلك المرحلة.

نتائج الانهيار

شكّل انهيار بنك إنترا نقطة تحوّل جوهرية في النظام المالي والاقتصادي اللبناني، حيث كانت تداعياته واسعة النطاق على مختلف الأصعدة.

  • التداعيات المباشرة:
  • أسفر الفشل عن حالة من الذعر واسعة النطاق، حيث هرع المودعون لسحب مدخراتهم خوفاً من فقدانها.
  • اضطرت الحكومة اللبنانية إلى تأميم طيران الشرق الأوسط وعدد من الأصول الرئيسية التي كان يمتلكها يوسف بيدس.
  • تكبّد المودعون خسائر كبيرة بلغت ملايين الدولارات، ما أدى إلى تراجع حاد في الثقة العامة بالمؤسسات المالية.
  • الآثار طويلة المدى:
  • تحول اقتصادي: انتقل القطاع المصرفي اللبناني إلى سيطرة أطراف أجنبية، ما أدى إلى تآكل مكانة لبنان كمركز مالي عالمي.
  • انعدام الثقة بالمستثمرين: زرعت الأزمة شكوكاً عميقة في قدرة لبنان على حماية الاستثمارات الكبيرة، ما زعزع استقرار القطاع المالي.
  • تداعيات سياسية:
  • ساهمت الحادثة في تعميق هيمنة شبكات النخبة داخل القطاع المصرفي، ما أسهم في تعزيز المحسوبية.

نقد ديب للسرديات التاريخية

يتحدى كمال ديب الرواية السائدة البسيطة التي تصوّر يوسف بيدس كمصرفي متهور، حيث يرى أن انهيار بنك إنترا كان نتيجة لتنسيق بين تحالفات النخب السياسية والاقتصادية، التي رأت في بيدس تهديداً مباشراً لنفوذها.

نقاط هامة في آراء ديب

  • كانت أصول البنك أكبر بكثير من التزاماته، ما يثير تساؤلات حول حقيقة أسباب إفلاسه.
  • التسرع في تفكيك البنك أدّى إلى تجاهل الفرص التي ربما كانت كفيلة بإنقاذه.

هذا التقييم يعيد النظر في النموذج الاقتصادي اللبناني، ويُبرز الحاجة الملحة لإعادة التفكير في الحقائق التاريخية.

دروس مستفادة

يُعدّ انهيار بنك إنترا درساً تحذيرياً للمؤسسات المالية الحالية وصانعي السياسات:

  • أهمية الرقابة الشفافة: تعزز الأطر التنظيمية القوية وآليات التدخل المبكر من إمكانية تجنب الأزمات المالية.
  • القيم الأخلاقية والشمولية: يجب أن تُبنى الأنظمة الاقتصادية على أسس من الإنصاف والتنوع، مع ضرورة الابتعاد عن التمييز في الأسواق.
  • التوازن بين الابتكار والمخاطر: رغم أهمية الاستثمارات المبتكرة، فإن موازنتها بعناية مع إدارة المخاطر والسيولة تُعدّ أمراً حيوياً لضمان استدامتها.

إعادة النظر في مفترق الطرق المالي للبنان

ألحق انهيار بنك إنترا ضرراً بالغاً بصورة لبنان كـ”سويسرا الشرق الأوسط”. ولكنه في الوقت ذاته يقدم رؤى استراتيجية قيّمة حول الحوكمة والتنظيم، بالإضافة إلى التفاعل الحيوي بين السياسة والاقتصاد. يدفعنا البحث المستفيض لكمال ديب إلى مواجهة حقائق غير مريحة وإعادة النظر في السرديات التاريخية السائدة.

بالنسبة للمجتمع اللبناني اليوم، تظل قصة يوسف بيدس وبنك إنترا تذكرة حية بأهمية الثقة، المساواة، والمؤسسات القوية في أي نظام اقتصادي. فبدون هذه الركائز الأساسية، حتى أكثر المشاريع المالية طموحاً قد تجد نفسها مهددة بالانهيار.

https://hura7.com/?p=51275

الأكثر قراءة