الياس كساب
جريدة الحرة ـ بيروت
أسقط دونالد ترامب بالضربة القاضية، وبالعدّ التنازلي لمهلة الستين يوماً، سياسة المراوغة الإيرانية، والتي استمرت منذ عام 2003 وحتى اليوم، أي على مدى عشرين عاماً، والمتعلقة بالمفاوضات حول برنامجها النووي والصاروخي، والتي مرت بمراحل عديدة. فقد بدأتها مجموعة EU3، أي فرنسا وألمانيا وبريطانيا على عهد الرئيس الإيراني محمد خاتمي، وفي عهد الرئيس جورج بوش الابن، ثم انضمّت الولايات المتحدة وروسيا والصين سنة 2006 لهذه المفاوضات رسميّاً، حتى الانخراط الكبير والفعال على عهد الرئيس أوباما بعد انتخاب حسن روحاني، وتوقيع الاتفاق النووي في 14 تموز 2015، والذي عُرف رسميّاً باسم خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA). هذا الاتفاق الذي أتاح للنظام الإيراني استعادة مليارات من الدولارات، وسمح له باستعماله كغطاء للتوسع داخل ما يعرف بدول الممانعة، وسهّلَ استعمال الأموال هذه لإحلال النفوذ الإيراني هيمنةً على عواصم هذه الدول، من بيروت، إلى دمشق، ومن بغداد إلى صنعاء، مروراً بغزة.

طالما عملت قوى اللوبي الممثّل لشعوب المنطقة العربية، والشرق أوسطيّة، وحتى الإيرانية في الولايات المتحدة، على تحذير إدارة أوباما من مغبّة ما ستقوم به، ولكنّ أوباما أراد الانسحاب من المناطق الساخنة والتركيز على الداخل والاقتصاد، فأدار ظهره لصرخات شعوب المنطقة كلها، فدفعت هذه الشعوب ثمناً باهظاً لهذا الاتفاق من دمائها وتقدّمها واستقرارها.
منذ الانسحاب الأميركي، مع عهد ترامب الأول، من الاتفاق النووي عام 2018، دخلت إيران في مواجهة مفتوحة مع الغرب، تقودها رهانات استراتيجية ذات كلفة عالية. وفي قلب هذه المواجهة تكمن معادلة يبدو أنها تزداد وضوحاً يوماً بعد يوم: إما التخلي عن الطموحات النووية والصاروخية، أو القبول بانهيار تدريجي للنظام بفعل الحصار والاحتجاجات الداخلية والعزلة الدولية. إنها معادلة الوجود، لا السيادة فقط.
الغرب يرفع سقف الشروط: لا نووي، لا صواريخ، ولا نفوذ
في المفاوضات المتعثّرة التي تلت انسحاب ترامب من الاتفاق، بدا واضحاً أنّ إدارة بايدن، ورغم نبرتها الدبلوماسية، كانت لا تسعى فقط لإحياء اتفاق 2015، بل تطرح ما يُعرف بـ”اتفاق أطول وأقوى” يشمل:
- وقف تخصيب اليورانيوم عند مستوى منخفض وبشكل دائم.
- تفكيك برنامج الصواريخ الباليستية بعيدة المدى.
- كبح النفوذ الإيراني في الإقليم، بدءاً من حزب الله وانتهاءً بالحوثيين.

هذه الشروط تتجاوز الخطوط الحمراء للنظام الإيراني، الذي يعتبر هذه الملفات بمثابة مرتكزات وجوده السياسي والعقائدي والعسكري. وبذلك، يجد النظام نفسه في الحرب التي فتحتها إسرائيل عليه أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما التنازل عن مقومات القوة والهيبة التي بناها منذ الثورة، أو مواجهة سيناريوهات الانهيار والعزلة والتفكك الداخلي على المدى البعيد، أو ربما القريب والمُفاجئ، من يدري؟!
الشارع الإيراني: بين ضغوط الداخل واعتراض الانتشار الإيراني من الخارج
قبل الحرب الحاليّة لم يكن الضغط على إيران محصوراً من دول الغرب فقط، فقد شهدت السنوات الأخيرة موجات متكررة من الاحتجاجات الداخلية، كانت أبرزها انتفاضة 2022 عقب مقتل مهسا أميني. هذه الانتفاضات تعبّر عن تحوّل بنيوي في المزاج الشعبي الإيراني، حيث باتت فئات واسعة من المجتمع ترى في سياسات النظام عبئاً لا حماية، وحيث تستمر المعارضة الإيرانيّة في الخارج في كشفها للعالم الحر تجاوزات النظام بحقّ الشعب الإيراني، وتطرح موضوعات حقوق الإنسان، والسجون، والأحكام بالإعدام للمعارضين، حتى أنّ هذه المعارضة، بالرغم من انقساماتها، فهي شكلت رمزيّة إعلاميّة، ونجحت في نقل صورة النظام الحقيقيّة إلى العالم.
إضافةً إلى أن العملة الإيرانية تنهار، والاقتصاد يترنح، والاستثمارات الأجنبية شبه معدومة. وكلما زاد الرهان على “المقاومة الاقتصادية”، كلما اقترب النظام من سيناريو كوريا الشمالية، لكن في بيئة أقل قابلية للانغلاق الجغرافي أو الاجتماعي.
الخيار الثالث: هل لا يزال ممكناً؟
ثمة من يرى أن إيران تحاول شراء الوقت، كما فعلت مراراً، عبر استئناف مفاوضات جزئية، أو العودة إلى صيغة “تجميد مقابل تخفيف العقوبات”. لكن الزمن لا يعمل لصالحها:
- إسرائيل استفادت من العد التنازلي لإيران من قبل ترامب، فبدأت الحرب.
- الدول العربية تتقارب مع إسرائيل عسكرياً واستخباراتياً، والخصومة مع طهران لم تُطوَ رغم المصالحات المؤقتة.
- الغرب يعيد ترتيب أوراقه في المنطقة لمواجهة محور روسيا – الصين – إيران.
كل هذا يعني أن “الخيار الثالث” القائم على المماطلة والتكتيك لم يعد كافياً. إيران تُدفع تدريجياً نحو خيار استراتيجي جذري: إما الخضوع لمنظومة دولية لا تقبل بها أيديولوجيّاً، أو الدخول في مسار صدام شامل قد يودي بالنظام نفسه، والهزائم التي أصابت محورها في بيروت، وغزة، ودمشق، وضرب حليفها الحوثي في اليمن، مهّد الطريق لهذا الصدام.

النظام أمام سؤال الوجود لا السيادة
السؤال لم يعد: هل تمتلك إيران سلاحاً نووياً أم لا؟ بل: هل يمكن لنظام “ولاية الفقيه” أن يستمر دون أدوات الردع والهيمنة؟
الإجابة عن هذا السؤال لا تُقدَّم فقط في فيينا أو نيويورك، بل صيغت، وتُصاغ في شوارع طهران، وأزقّة النجف وصنعاء، وبيروت، ودمشق. وقد تكون التطورات المتسارعة اختباراً لما إذا كان النظام الإيراني سيتكيّف مع نظام عالمي جديد، أم سيُدفَع دفعاً إلى نهايته التاريخية، التي لا تحقَّقها الطائرات ولا العقوبات، بل تحقّقها لحظة وعي داخلي: إنّ البقاء ليس في امتلاك السلاح، بل في نزع الذريعة التي تبرّر وجوده.
الانتشار الإيراني في العالم: قوته، وتفاعله مع الداخل، وإمكانية قيادته للتغيير إذا سقط النظام
كاللبنانيين، الإيرانيون منتشرون في العالم، وفي كل القارات، لكنّ وجودهم أساسي في دولتين من أميركا الشمالية: الولايات المتحدة وكندا. هم ينقسمون إلى جيلين:
- الجيل الأول، معظمهم هاجر بعد ثورة 1979، أو خلال الحرب العراقيّة – الإيرانيّة، ينتمون إلى الطبقة الوسطى، أو الغنيّة، وتضم نُخباً علميّةً وثقافيّةً واقتصاديّة. يحملون حنيناً قويّاً إلى “إيران ما قبل الثورة”، هم في أغلبيّتهم ليبراليّون، وبنسبةٍ أقل ملكيّون، ويساريّون، وبعضهم من الإسلاميين المعارضين للخمينيّة. يتحدثون الفارسيّة بطلاقة، ويحافظون على الهويّة الثقافيّة في البيت والمجتمع، وقد شكلوا النواة الأولى للنجاح الاقتصادي الإيراني في المهجر، وبرزوا في الطب، والعلوم، والصيدلة، والهندسة والمحاماة، وأبدعوا في ريادة الأعمال.
- الجيل الثاني، وهم المولودون في أميركا وكندا، ينتمون إلى الطبقة المتعلّمة والمستقرّة، يتكلمون الإنكليزيّة، والفرنسيّة (في كيبيك)، كلغة أولى، ويتقنون الفارسيّة بدرجات متفاوتة، يواجهون صراعاً بين الثقافتين: الغربيّة والإيرانيّة، يركزون على الاندماج المهني والاجتماعي، يعتزون بإرثهم الثقافي، لكنهم يميلون إلى العلمانيّة، نشطون في الحقول الإعلاميّة، والسياسيّة المحليّة، والتقنيّة (خصوصاً في كندا).
هذا إضافة إلى البهائيّين ومركزهم الديني والإداري في حيفا، حيث مقرهم الأساسي الذي يُعرف بـِ “البيت العالمي للعدل”، والذي يؤمّه حُجّاج البهائيّين (الذين يُقدّر عددهم بأكثر من سبع ملايين موزعين بين الهند والولايات المتحدة بالإضافة بالطبع إلى إيران).
أما اليهود الإيرانيون (أكثر من ثمانية آلاف في إيران، معظمهم في طهران، وأصفهان، وشيراز)، مئة ألف منهم يتوزّعون بين تل أبيب وحيفا، ولوس أنجلوس، نيويورك وتورونتو، فلديهم نفوذ كبير في مجالات السياسة، والإعلام والمال.

في حال عدم نجاح “البراغماتيّة” الإيرانيّة هذه المرّة، وهذا هو المُرجّح، فإنّ خسارة البرنامج النووي والصاروخي سينهي محور الممانعة، وبعد الخسارة لا معنى لأدبيّات تصدير الثورة، وستسقط مفاعيل السيطرة على مضيقي هرمز وباب المندب، والانكفاء للداخل سيعزز الصراع لمصلحة الإصلاحيين (ربما مرحليّاً)، ولكن، عاجلاً أم آجلاً سيؤدي لسقوط النظام (ببطء أو بسرعة!)، أو لعلّ اغتيالاً للمرشد، إذا تم، على طريقة اغتيال حسن نصرالله، أو إحداث تغيّر مُفاجئ، كما جرى مع بشّار الأسد، قد يُفضي، مع حراك شعبي ربما، إلى انهيار وتفكّك النظام الفوري.
إنّ انعكاسات سقوط النظام على الانتشار الإيراني سيختلف من مجموعة إلى أخرى، فسوف نرى أبناء الجيل الأوّل يطرحون أنفسهم كبديل، وسوف نشهد مؤتمرات حواريّة لهم في لوس أنجلوس، وتورونتو، وربما لندن وبرلين، لصياغة “رؤيا إيران الجديدة”. أما الجيل الثاني فسيكون شريكاً في إعادة الإعمار، يوظف مهاراته العالية في الإدارة، والتكنولوجيا والحوكمة، وسوف يُطلب منه المساهمة في إعادة بناء المؤسسات.
الانتشار الإيراني مؤهّل ليبدأ بترسيخ هويّة جديدة، علمانيّة، ليبراليّة، ومتصالحة مع النفس أولاً، ومع المحيط، ومع الغرب، ثانياً، ومحترِمة للأقليّات في الداخل من أكراد، وبهائيين، وعرب، ويهود… أيضاً!
الانتشار اللبناني الذي يواجه مشاكل النظام السياسي اللبناني المُركَّب والمتنوّع، والمنظومة التي تخترق الطوائف، لا بل المذاهب، والمتداخلة والمتحالفة، والمستفيدة من الصراعات الطائفيّة، والمذهبيّة، تصعب عليه هذه المواجهة المُعقّدة في سبيل التغيير، أما الانتشار الإيراني فيواجه نظاماً إيديولوجيّاً دينيّاً ديكتاتوريّاً أحاديّاً غير مُركّب، بالرغم من تنوّع مؤسّسات النظام، فسقوط “الوليّ الفقيه” يسقط النظام، وهذا السقوط سيكون جذريّاً، وسريعاً، وبالطبع، وانطلاقاً من الواقع المجتمعي المفروز بوضوح بين فريقين واضحين: الخمينيّين والمعارضين، فلن يكون التغيير بحاجة لقيادة مرحليّة شبيهة بـ”أحمد شرع” جديد يلبس رداء الدكتاتور، ويلتحي كالإسلاميين، ويهادن المتطرّفين، ويعِد بالانفتاح، ويستجدي الاستقرار تودّداً من الدول العربيّة، وانبطاحاً أمام إسرائيل والغرب!
في الذاكرة التاريخيّة للإيرانيين يكمن ذلك الشعب المنفتح، والعريق، والناجح الذي يعشق التجارة والعلم والفن، فلم يكن له الغرب عدوّاً، ولا “شيطاناً أكبر”، بل حليفاً جعل من الجيش الإيراني في عهد الشاه أكبر قوة في الشرق الأوسط، وإسرائيل حتى لم تكن “الشيطان الأصغر” مع انطلاق الثورة، فبالأمس، خلال الحرب العراقيّة – الإيرانيّة، اشترى نظام الملالي بما يقرب المليار دولار سلاحاً من إسرائيل، واستفاد من خبرائها في تجديد أسلحته الأميركيّة القديمة، لأنّ صدّام كان العدو المشترك، فلا نعجبنَّ إذا رأينا غداً بنات وأبناء إيران المنتشرين والمقيمين، من حيفا وتل أبيب، إلى لوس أنجلوس ونيويورك وتورونتو ومونتريال، ومن أوروبا حتى حوزات قُم، يجمعهم السلام في دولةِ إيران الجديدة، والديمقراطيّة، والعصريّة، والتي ستفتح أبوابها للعالم على يد أولادها المنتشرين، في منطقةٍ شرق أوسطيّة جديدة ترسم الدماء حدودَها اليوم، على هدير الإعصار الزاحف من شرق المتوسّط وحتى الخليج!
باحث سياسي واغترابي/ تورونتو