جريدة الحرة بيروت
بقلم: محمد سعد عبد اللطيف
في شرم الشيخ، المدينة التي طالما عرفت لغة الصمت أكثر من لغة الصخب، عادت الأضواء إليها من جديد، لا للاحتفال ولا للسلام السياحي، بل لتبحث عن مخرجٍ لحربٍ لم تعد تُشبه الحروب.
جلسةٌ وُصفت بأنها “استكشافية”، لكنها في حقيقتها كانت امتحانًا لنوايا الأطراف، لا لموازين القوى فقط. أرادت المقاومة أن تختبر جدّية العدو، وأراد العدو أن يختبر حدود الصبر الفلسطيني.
في تلك القاعة المحصّنة بالنوايا المتناقضة، كان وفد “حماس” أكثر واقعية مما يتخيل البعض. لم يذهبوا لإلقاء الشعارات أو توزيع الانتصارات الكلامية، بل ليضعوا على الطاولة معادلة صارمة: لا إفراج عن الأسرى دون انسحاب كامل. لا جزئيًا، ولا مرحليًا، ولا وفق خرائط صُنعت في مكاتب “صفقة القرن” التي أخرجها ترامب من أدراجه المليئة بالوهم.
الخريطة الأمريكية – الإسرائيلية بدت كأنها نسخة غزة من اتفاق لبنان الأخير: نقاط مرتفعة هنا، وممرات أمنية هناك، وذرائع تحت مسمى “ضمان الأمن”.
لكن “حماس” قرأت ما وراء الخطوط: إسرائيل تريد الاحتفاظ بتلة الشجاعية، المرتفع الذي يكشف غزة كما تكشف عين المحتل قلب الضحية، وتريد البقاء في ممر فيلادلفيا لتظل يدها على نبض القطاع وإن غادرت أقدامها الأرض.
ومع ذلك، لم يكن الصوت الفلسطيني وحده في الرفض . القاهرة، التي تعرف ثمن الجغرافيا أكثر من أي طرف، أعلنت بوضوح: لا وجود دائمًا لإسرائيل في الممر. كان ذلك هو التقاطع الأول بين القاهرة وغزة بعد أعوام من الفتور. أما التقاطع الثاني فكان حول صيغة توافق وطني لإدارة القطاع، تتجاوز الانقسام وتعيد إنتاج الوحدة الفلسطينية، وهو ما رفضته السلطة في رام الله خشية تقويض دورها.وهكذا ظلت المسافة بين السياسة والواقع أبعد من المسافة بين رفح والقدس.
أما ملف الأسرى، فبقي أعقد معادلة في الشرق الأوسط اليوم. فالإفراج عن الأسرى، في نظر المقاومة، ليس بندًا تفاوضيًا بل معنى وجوديّ. وحين يُذكر اسم مروان البرغوثي، يتحول النقاش إلى ما يشبه “المقدس السياسي”، لأن البرغوثي ليس مجرد أسير بل رمز للضمير الفلسطيني، وجسرٌ محتمل بين غزة والضفة، بين الرصاصة والورقة.
قبول إطلاقه يعني اعترافًا ضمنيًا بأن المشكلة ليست في “حماس“، بل في الاحتلال ذاته. لكن هل تسمح إسرائيل بهذا التحول؟
الإجابة يعرفها كل من قرأ وجه نتنياهو في المرآة؛ الرجل يفاوض تحت ظل ترامب لا تحت ظل الحقيقة.
ترامب يريد جائزة نوبل للسلام، ونتنياهو يريد جائزة البقاء في الحكم، وكلاهما يعرف أن السلام الحقيقي لا يمنح جوائز.
ورغم الجراح والخسائر، تبقى المقاومة الرقم الصعب الذي يعيد تعريف الممكن. فهي لم تعد حركة محاصَرة في غزة، بل حالة وعيٍ في كل بيت فلسطيني وعربي يؤمن أن الكرامة لا تُشترى بخريطة انسحاب ولا بخطوط وقف نار.
ومن هنا تصبح المفاوضات اختبارًا آخر:
هل يمكن للمقاومة أن توازن بين واقعية السياسة وقدسية الدم؟
هل يمكن أن تدخل دهاليز التفاوض دون أن تفقد معناها الأخلاقي؟
الجواب لا يُكتب في محاضر الجلسات، بل في صبر الناس خلف الركام، وفي صلابة الفكرة التي صمدت عامين من الحرب.
فالمعادلة ليست بين “حماس” وإسرائيل فقط، بل بين من يريد إنهاء القضية، ومن يصرّ على أن تبقى حيّة. وفي هذا المشهد المعقّد، تتكلم مصر بلغة لا يعرفها سوى الكبار.
من مدينةٍ وُلدت من رحم الرمال لتصير لسانًا للسلام، أطلق الرئيس عبد الفتاح السيسي دعوته للرئيس الأمريكي دونالد ترامب لحضور توقيع اتفاق “شرم الشيخ” المرتقب ـ دعوة تتجاوز البروتوكول إلى رسالة إستراتيجية صافية المعنى، عميقة المغزى.
إنها ليست دعوة مجاملة، بل إعلان مصري صريح بأن القاهرة لا تزال تمسك بخيوط اللعبة في الشرق الأوسط، وأن صوتها وحده قادر على تحويل ضجيج الحرب إلى لغة للعقل والتوازن. حين يدعو السيسي ترامب، فهو لا يستدعي شخصًا بل يستدعي الوزن الأمريكي الغائب ليجلس مجددًا على مائدة الشرق الأوسط، في وقتٍ تتراجع فيه الأدوار وتتشابك المصالح.
دعوة السيسي تحمل ثلاثة أبعاد كبرى:
أولًا: إعادة تموضع للدبلوماسية المصرية التي قررت أن تكون المبادِرة لا المراقِبة.
ثانيًا : رسالة ثقة داخلية تؤكد أن القاهرة ما زالت تصنع الحدث وتفرض الإيقاع.
وثالثًا: تذكير للعالم بأن مصر، الدولة التي أرهقها التاريخ لكنها لم تنكسر يومًا، ما زالت مركز الثقل وصاحبة القرار في لحظات التحول.
منذ السابع من أكتوبر تغيّر وجه المنطقة، لكن القاهرة ظلت تحافظ على هدوئها التاريخي، تؤمن أن السلاح لا يصنع نهاية، وأن التفاوض هو اللغة الوحيدة التي تبقى. وحين قررت أن تُعيد واشنطن إلى المسرح، فإنها أرادت أن تعيد ترتيب الطاولة بأدواتها، وتؤكد أن استقرار الشرق الأوسط لا يمكن أن يتم دون مصر، ولا يمكن لأي اتفاق أن يعيش من دون توقيع مصري عليه أو حوله.
ليس عبثًا أن تكون شرم الشيخ هي مسرح الحدث.
فهي المدينة التي خُلقت لتكون عنوانًا للسلام، وها هي اليوم تعود لتؤكد أن القوة الهادئة هي التي تصنع التاريخ، وأن القاهرة قادرة على جمع الأضداد تحت سقفٍ واحد. إنها لحظة مصرية بامتياز، تُعيد إلى الدبلوماسية العربية هيبتها، وتُذكّر الجميع بأن مصر التي علّمت العالم كيف يصنع السلام، لا تزال قادرة على إعادة رسم خرائطه من جديد.
وحين يجلس السيسي إلى جوار ترامب — إن لبّى الدعوة — ستكون الصورة أكبر من لقاءٍ سياسي. إنها صورة مصر الحديثة التي تعرف متى تُصافح ومتى تحسم، ومتى تُرسل الرسائل بلغة الصمت المعبّر.
في النهاية، يمكن القول إن مصر لا تُراهن على المصادفة، بل على رؤية واستمرارية تشبه نهرها الخالد.
فهي لا تدعو أحدًا ليحضر لحظة سلامٍ عابر، بل تدعو العالم ليشهد عودة القاهرة إلى مقعدها الطبيعي في مقدمة المشهد الدولي. وهكذا، من شرم الشيخ، تتقاطع واقعية المقاومة مع حكمة الدولة المصرية، في مشهدٍ يعيد تعريف الشرق الأوسط بين من يفاوض بالدم ومن يفاوض بالعقل.
وحتى لو انتهت المفاوضات بلا ورقة موقّعة، فإن التاريخ سيكتب أن حماس خرجت من الزاوية، ومصر أعادت ترتيب المسرح، وأن العدو يفاوض من موقع العجز، بينما تتحدث القاهرة من موقع القدرة. فالخلاص الفلسطيني لا يُرسم على الطاولات، بل يُكتب في توازن الوعي والإرادة، وفي قدرة العرب على توحيد البوصلة نحو القدس لا نحو الخريطة….!!
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية ..!!


