جريدة الحرة
بقلم: محمد سعد عبد اللطيف – كاتب وباحث مصري متخصص في الشؤون الجيوسياسبة والصراعات الدولية
في لحظات التحول التاريخي، تقف الشعوب على حافة مفترق صعب: إما أن تختار طريق الانتقام والانقسام، أو تسلك درب العدالة والمصالحة.
سوريا اليوم، بعد سنوات من الحرب والدمار، أمام هذا المفترق. فهل تنجح في الخروج من أتون الصراع إلى مصالحة حقيقية، كما حدث في جنوب إفريقيا أو أوروبا الشرقية بعد انهيار جدار برلين؟
في جنوب إفريقيا، اختار مانديلا طريقًا مختلفًا: لا محاكمات واسعة، ولا انتقام، بل “لجنة الحقيقة والمصالحة” التي اعتمدت مبدأ الاعتراف مقابل العفو. لم يكن العفو مطلقًا، بل مشروطًا بكشف الحقيقة، وكانت الغاية أن يتعافى المجتمع من جراحه. أما الكتلة الشرقية، فبعد انهيار الأنظمة الشمولية، جرى تفكيك أجهزة القمع، ومحاسبة الرموز، ثم إعادة بناء الدولة على أسس قانونية ومجتمعية جديدة.
لكن في سوريا، لا يزال النظام قائمًا، والبنية الأمنية مستمرة في أداء دورها، وإن بأقنعة متعددة. لم تنهر المنظومة، ولم تبدأ بعد عملية حقيقية للعدالة الانتقالية. ومع غياب الإرادة السياسية وتشتت المعارضة، تظل فكرة العدالة مجرد حلم مؤجل.
لماذا يُنظر إلينا كوحوش داخل أوطاننا؟
لأن المشهد العام في الإعلام العالمي يصورنا كمجتمعات تمزق نفسها بنفسها، دون تمييز بين الضحية والجلاد. لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا. ليس كل مواطن مسؤولًا، وليس كل عنصر أمني وحشًا. كثيرون كانوا ينفذون الأوامر مجبرين، يخشون على حياتهم أو قوتهم. فهل كان الموظف في الجهاز الأمني يستطيع رفض أمر صادر من أعلى دون أن يُسجن أو يُفصل أو يُقتل؟
المشكلة ليست في الأفراد وحدهم، بل في منظومة القمع التي حولت الناس إلى أدوات خائفة، أو جلادين مضطرين. ثوار الباستيل… درس من التاريخ الفرنسي. عندما اندلعت الثورة الفرنسية، كان الشعار: “حرية، مساواة، إخاء”، لكنها تحولت سريعًا إلى مشانق ومحاكم ثورية وانتقام دموي. لم تنجُ حتى الثورة من نفسها.
لكن بعد سنوات من العنف، بدأ مشروع جديد: مشروع الدولة الحديثة، الحقوق، والحب الوطني لا الكراهية الطبقية.
الثورات لا تنجح بالدم وحده، بل حين تعبر الجراح نحو البناء.
نموذج أدبي من وحي اللحظة
في رواية تخيلية بعنوان “بعد الحاجز”، يلتقي “سامر”، ضابط الأمن السابق، مع “وليد”، المعتقل السابق، في لجنة محلية للحقيقة والمصالحة في بلدة سورية مدمرة. يتواجهان، يعترف الأول بما فعله، ويطلب الثاني إجابة عن سنوات الضرب والإذلال. لا أحد يخرج بريئًا، ولا أحد يخرج منتصرًا، لكن اللقاء يفتح الباب أمام مشروع جديد: أن نبني جسرًا من الألم نحو وطن يتسع للجميع.
في النهاية، لا خلاص لسوريا إلا بالحقيقة، لا العفو المطلق ولا المحاكمات المطلقة. بل طريق ثالث… طريق يعرفه من نجا من الجحيم، ولم يفقد إنسانيته.