بقلم: طوني بولس
على مدى العقود الماضية، قوضت معادلة “جيش، شعب، مقاومة”، التي تبنّتها الحكومات المتعاقبة منذ عام 1992، تدريجاً دور الجيش اللبناني لمصلحة تنامي قدرات “حزب الله” الذي بات، مع مرور الوقت، صاحب قرار الحرب والسلم وأناط بنفسه مسؤولية “محاربة” إسرائيل، كما تقول قياداته. فبات هو المنتشر بصورة غير رسمية على حدود لبنان الجنوبية مع إسرائيل والشرقية – الشمالية مع سوريا، في حين كلّفت الحكومات المتعاقبة الجيش اللبناني بمهمات حماية الأمن الداخلي، فغرق في زواريب السياسة والصراعات الداخلية.
وبهدف ترسيخ معادلة القرار الاستراتيجي لدى “حزب الله”، روّجت معظم القوى السياسية وحتى المسؤولين في الحكومات ورؤساء الجمهورية، أن الجيش ضعيف ويحتاج إلى قوة الحزب لحماية لبنان، الأمر الذي حوّل وجود المؤسسة العسكرية الرسمية على جميع الحدود البرية للبنان إلى وجود رمزي، في وقت تؤكد فيه جميع التقارير المحلية والدولية أن من يمسك زمام الأمور هو “حزب الله” الذي برز بشكل فاضح على الحدود السورية، حيث يوجد 134 معبراً غير شرعي تحت إشرافه مباشرة أو عبر عشائر تحتمي برعايته.
ومنذ اندلاع الصراع بين “حزب الله” وإسرائيل، وعلى رغم رمزية وجود الجيش اللبناني في بعض المواقع في جنوب لبنان، بدأت محاولات لتوريطه بالصراع الدائر، على رغم أن قرار الحرب لم يتخذ عبر الأطر الرسمية ولم يتم تكليف الجيش بأي مهمة في هذا الشأن من قبل الحكومة، ولا سيما بعد تصاعد المواجهات. فيما يعتبر متابعون لما يحصل جنوباً أن “حزب الله” يريد أن يكون في الصف الخلفي وراء الجيش اللبناني ولا سيما بعد بدء الجيش الإسرائيلي عمليات برية في البلدات اللبنانية الحدودية.
قدرات الجيش
كثيراً ما خلقت قدرات الجيش اللبناني العسكرية والتسلح وإمكانية دفاعه عن الحدود والدخول في المواجهة مع إسرائيل جدلاً في الوسط السياسي والشعبي، وكرّست انقساماً بين من يريد الدولة ومؤسساتها، ومن يريد قوى الممانعة والارتباط الإقليمي بإيران، وتجلّت الجدلية على خلفيات أحداث الجنوب وتورّط لبنان بحرب دمرت ما تبقى من بنيانه وبناه التحتية ومصادر حياتية للبنانيين، في وقت يُتّهم “حزب الله” بأنه يصادرها كما غيرها من الوظائف الشرعية المناطة بالدولة اللبنانية.
ويؤكد خبراء عسكريون أن الجيش اللبناني هو واحد من هذه الجيوش الشريكة للجيوش الغربية والعربية في مكافحة الإرهاب، وقد حلّ في المركز 18 عربياً و111 عالمياً، في تصنيف القوة العسكرية “غلوبال فايرباور” لعام 2024 لأقوى جيوش العالم، وهو قادر فيما لو توفر له الغطاء السياسي والدولي، على مستوى القرار والتسليح، أي السلطة الشرعية والمجتمع الدولي.
ويكشف الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين أن عديد عناصر الجيش اللبناني كان يبلغ في السابق قرابة 83 ألف عسكري، فيما يبلغ العدد اليوم 72 ألفاً، وبلغت ميزانية الدفاع عام 2023، 20838 مليار ليرة لبنانية، أما في العام 2024 فقد بلغت 39307 مليارات ليرة، والنفقات تتوزع بشكل أساسي على الرواتب والأجور والتعويضات الاجتماعية.
حال الطوارئ
تزامناً مع انتقادات تعرّض لها الجيش أخيراً بعد تنفيذه إعادة انتشار في جنوب لبنان حفاظاً على حياة العسكريين، يُجمع معظم اللبنانيين على ضرورة إعطاء الجيش كل الإمكانات المتاحة والغطاء السياسي، للسيطرة على الحدود البرية وجميع المنافذ الحدودية للبلاد واتخاذ قرار رسمي بنشر عناصره في الجنوب تطبيقاً للقرار الدولي 1701.
وتدور في الكواليس نقاشات حول ضرورة إعلان حال الطوارئ من قبل الحكومة اللبنانية ليتمكن الجيش من فرض الاستقرار في البلاد في ظل الصراعات والانقسامات واستمرار الفراغ الرئاسي وفشل القوى السياسية بالتوصل إلى تسوية داخلية – إقليمية تعيد انبثاق السلطات الشرعية وتفعيل دورها، إلا أن ذلك يتطلب قراراً من قبل الحكومة وموافقة من البرلمان وفق الدستور.
تفويض رسمي
من ناحيته، شدد العميد الركن في الجيش اللبناني، فادي داود، على أهمية فهم العلاقة بين المؤسسة العسكرية والدولة، مشدداً على أنه “من الخطأ أن ننظر إلى الجيش كمؤسسة مستقلة عن الدولة”، مشيراً إلى أن “العاطفة الوطنية للمؤسسة العسكرية لا تتعارض مع العمل القانوني في المؤسسات الرسمية”، وأن الجيش اللبناني هو مؤسسة رسمية تتبع وزارة الدفاع الوطني، التي بدورها تتبع مجلس الوزراء، وأي قرار يتعلق بالدخول في الحرب يتخذ في مجلس الوزراء، إذ يتم إبلاغ الجيش عبر وزارة الدفاع، مما يبرز أهمية الالتزام بالهيكل الإداري والقانوني للدولة.
وأوضح أنه “حين يفوّض رسمياً الجيش بخوض الحرب، ولا يمثل لذلك، حينها تحاكم جميع هيكليته القيادية أمام المحاكم العسكرية”، وأضاف أنه “إذا لم يتم تكليف الجيش من قبل مجلس الوزراء، فإنه لا يحق له الانخراط في أي عمل عسكري”، وهو الأمر الذي ينطبق على وضع الجيش اللبناني حالياً في ظل الصراع بين “حزب الله” وإسرائيل.
وأكد أن المقارنة بين سلاح الجيش اللبناني والجيش الإسرائيلي ليست متوازنة، ومع ذلك، أشار إلى أنه “إذا دعا الواجب العسكر للانخراط في القتال، فإنهم سيوجدون في المكان الذي يتطلب ذلك، حتى لو كانوا يحملون سلاحاً محدوداً”، مضيفاً أن “هذه الروح هي جزء من الحياة العسكرية وقيم القسم العسكري”.
وأردف أن ميزانية الجيش اللبناني تقتصر فقط على تغطية الرواتب، مما يُعقد من إمكانية تكليف الجيش بخوض الحرب، مشدداً على أن “العناصر سيكونون ضحايا بخاصة في حال عدم توافر الإمكانات اللازمة”، لذلك تسعى الحكومة الحالية برئاسة نجيب ميقاتي إلى التفاوض مع المجتمع الدولي لتطبيق القرار الدولي 1701، الذي ينص على تسلم الجيش اللبناني مهامه الأمنية في الجنوب، بمساعدة قوات “اليونيفيل” بعد نهاية الحرب.
في المقابل يعتبر المحلل السياسي فادي أبو دية المقرب من “حزب الله أن قوة لبنان هي بمعادلة “جيش، شعب، مقاومة”، إذ يتكامل دور الجيش مع “حزب الله” في الدفاع عن لبنان. ويتوقف أبو دية عند متانة التنسيق والعمل المشترك بين الطرفين ووجود غرفة عمليات مشتركة، وهو ما يؤكد برأيه عمق العلاقات التي لا تقتصر على البيانات الوزارية في إشارة إلى البيانات التي رسخت المعادلة المذكورة سابقاً.
ولفت إلى أن طبيعة الصراع مع إسرائيل تستوجب وجود “مقاومة” وليس جيشاً نظامياً، وإمكانات وتدريبات وأهداف “حزب الله” تصب في هدف واحد، وهو حماية لبنان من الأخطار الخارجية، ولا سيما ضد إسرائيل التي لديها أهداف توسعية في لبنان. ويضيف قائلاً “الحكومة والجيش لا يستطيعان المواجهة لأسباب سياسية واقتصادية وعسكرية”.
ما بعد الحرب
الكاتب السياسي علي حمادة رأى بدوره أن لا علاقة للجيش اللبناني بالحرب التي أطلقها “حزب الله” ضد إسرائيل، مشدداً على أن سلوك الجيش وتصرفاته تعكس رغبة معظم اللبنانيين في الحفاظ على مؤسساته وعدم تعريض قواته وجنوده لأي خطر، معتبراً أن “حرب الإسناد”، تكبّد الحزب وبيئته وباقي اللبنانيين ثمناً باهظاً، مضيفاً أن الجيش يجب أن يبقى بعيداً عن الاشتباكات التي لا علاقة للبنان بها، لافتاً إلى أهمية حماية الجيش خلال هذه الفترة، معتبراً أن ذلك يعتبر ضرورياً لضمان جاهزيته في مرحلة ما بعد الحرب.
وأكد دور المؤسسة العسكرية الرسمية في تنفيذ القرارات الدولية وضمان الاستقرار على الحدود، موضحاً أن الجيش حاضر للانتشار بهدف تطبيق القرار 1701، الذي تم خرقه من قبل “حزب الله” وإسرائيل منذ البداية، مشدداً على ضرورة العودة إلى القرارات الدولية لضمان عدم وجود ثغرات في التنفيذ، وأن الجيش هو الجهة الوحيدة صاحبة الشرعية الكاملة الوطنية لتحقيق السلام في مناطق الجنوب اللبناني.
وفي ما يتعلق بالمعابر غير الشرعية، أوضح حمادة أن الجيش اللبناني يجب أن يكون الحارس المسؤول عن منع العبور غير الشرعي والتهريب بجميع أنواعه، بما في ذلك السلاح غير الشرعي والمخدرات والسلع المختلفة، موضحاً أن غياب القرار السياسي الجدي من السلطات السياسية والدستورية يجعل الجيش عملياً تحت إمرة هذه السلطات وليس العكس. لذا، هناك ضرورة لتغيير سلوك “حزب الله” أو حتى طبيعته، ليتحول إلى حزب سياسي اجتماعي بدلاً من أن يظل كجيش مسلح يفوق قوة الجيش اللبناني.
الفصل السابع
ويشير مدير مركز اللبناني للأبحاث والاستشارات حسان القطب إلى أن الجيش هو المؤسسة الأمنية والوطنية التي يثق بها معظم المواطنين، وهي المؤسسة التي تحظى بدعم الدول العربية والغربية، لافتاً إلى أن “حزب الله” عمل على مدى السنوات على إضعافه من خلال التشكيك في قدرته على ضبط الأمن وحماية الحدود، ومحاصرته بالبيانات الوزارية التي شرعت دور الحزب عبر معادلة “جيش وشعب ومقاومة” للدلالة على حاجة الجيش إلى دعم من تنظيمات مسلحة لا تخضع لقيادته.
وكشف أن وجود الجيش اللبناني رمزي في جنوب لبنان، مما أضعف صورته في نظر الجمهور، بخاصة مع كل مرحلة تعيينات أو ترقيات، في مختلف القطاعات، فيما مسألة التجديد لقائد الجيش ما زالت موضع سجال والحملة على قائد الجيش جوزيف عون ودوره تمارسها الصحافة الصفراء بصورة دورية ويومية وممنهجة، وبتوجيه من غرفة إعلامية حاقدة على الوطن واستقراره وتلاحم أبنائه.
وأشار إلى أن انتشار الجيش في الداخل أمر منهك للجيش وغير مقبول، لذا فإن مسألة الأمن الداخلي هي من مهمات قوى الأمن الداخلي، والجيش يشكل داعماً لهذه القوى عند الحاجة. واستخدام الجيش في الداخل كما جرى في حادثة الطيونة أو غيرها، إنما الهدف منه إشغال الجيش في الداخل حتى تبقى الحدود بيد الميليشيات الطائفية التي تستخدم معابر غير شرعية للتهريب والاستثمار، والحدود الجنوبية لإشعال الحروب بطلب من إيران عند الضرورة.
وبرأيه، انتشار الجيش على الحدود هو أمر بديهي ومطلوب، ولكن قبل ذلك يجب أن يتم تجريد كل الميليشيات من السلاح، معتبراً أن المنطقة تتجه إلى مواجهة متغيرات كثيرة، أمنية وسياسية، وليس جغرافية، ومن ثم يصبح انتشار الجيش على الحدود لحماية الوطن أمراً ضرورياً ومطلوباً محلياً وإقليمياً ودولياً، بخاصة إذا صدر قرار أممي جديد، يعطي القوات الدولية الصلاحية الكاملة أي تحت (الفصل السابع) بالتعاون مع الجيش اللبناني لضبط أمن الحدود، ومنع التهريب ومعاقبة كل من يتجاوز القانون أو من يعتدي على الجيش والقوات الدولية، تماماً كما يجري في (كوسوفو) أو (البوسنة) حيث يستقر الأمن ويعم الاستقرار.
ومع عجز السلطة السياسية في لبنان عن اتخاذ قرار بتكليف الجيش حماية الوطن والشعب والتخلص من السلاح غير الشرعي يصبح القرار الأممي هو المطلوب والمناسب لوقف الحرب، والانتقال إلى مرحلة إعادة بناء الدولة والالتزام بالنصوص الدستورية والهيكلية الدستورية وإطلاق عجلة الإعمار على أسس ثابتة وراسخة مع ضمان الاستقرار والخروج من المشاريع الإقليمية المدمرة والهدامة.
المصدر: إندبندت عربية