france24ـ بدأت القوات الأوكرانية والروسية مؤخرا في استعمال “الثيرمايت” في ساحة المعركة، عبر تجهيز الطائرات المسيرة بهذه المادة الحارقة لرشها فوق رؤوس الجنود في مشهد يذكرنا بقنابل النابالم، أو ألسنة اللهب التي ينفثها التنين ومن هنا جاءت التسمية “مسيّرات التنين”. لكن هذا السلاح الجديد يطرح تساؤلات حول مدى فعاليته، وأيضا لجهة كونه يشكل انتهاكا للمواثيق الدولية.
بعد منجل الموت والروبوتات القاتلة التي تلاحق الجنود في ساحة المعركة بين روسيا وأوكرانيا، ابتكر طرفا النزاع “لعبة جديدة” قاتلة بشكل أكثر ترهيبا لنفسية الجنود المحطمين أصلا مع استمرار الصراع.
أطلق على هذا السلاح الجديد قاذف اللهب تسمية “مسيّرات التنين” التي تستخدم مادة “الثيرمايت” أو الترميث لإحراق كل ما يقع تحتها من معدات وتجهيزات حربية ومواقع عسكرية وغابات وتجمعات الجنود، وهي تعد حسب خبراء أشد فتكا خصوصا من الناحية النفسية.
وعلى منصات التواصل بما في ذلك إكس (تويتر سابقا) وتيلغرام، أعلنت أوكرانيا مؤخرا عن شروع وحداتها العسكرية في استخدام طائرات مسيرة قاذفة اللهب، تمطر المواقع الروسية بألسنة اللهب لتحرق -كما يمكن مشاهدته في الفيديوهات المتداولة بكثافة- الشجر والبشر وكل ما أمكن في مواقع العدو.
“2500 درجة مئوية تذيب الحديد في ثوان”
ونشرت وزارة الدفاع الأوكرانية في 4 سبتمبر/أيلول مقطع فيديو قالت إنه يظهر هجوما شنته “مسيّرة التنين” على مواقع روسية في منطقة خاركيف شمال شرق أوكرانيا.
يشرح أحد الحسابات الأوكرانية الذي ينشر تغريدات باستمرار على منصة إكس باللغة الإنكليزية، في منشور مرفق بعدة فيديوهات لهذه المسيّرات قاذفة اللهب، بأن الجيش الأوكراني قد شرع في استخدام “مسيّرة التنين” في هجوم هدفه إحراق “المنطقة الموجودة أسفلها بمادة الثيرمايت وهي عبارة عن خليط من حبيبات مشتعلة من أكسيد الحديد والألومنيوم”.
يضيف نفس الحساب في منشوره بأنه “يمكن وضع حوالي 500 غرام من خليط الثيرمايت تحت الطائرة المسيّرة”. موضحا: “يتم إطلاق التفاعل الكيميائي عن طريق جهاز تحكم عن بعد قبل وقت قصير من بلوغه الهدف. تبلغ درجة حرارة الثيرمايت حوالي 2500 درجة مئوية ما يعني أن الخليط الساخن يؤدي إلى تآكل (كل شيء) حتى الحديد في ثوان، وبالتالي تصبح قذائف الهاون والقنابل اليدوية والخراطيش مميتة” لكل الجنود الذي كانوا يحملونها معهم في الجبهات.
“لحرق الجنود الأوكرانيين في الغابات”
ردا على دخول هذا السلاح الجديد، أعلنت روسيا بدورها عن الشروع في استخدام الطائرات المسيرة المزودة بمادة الثيرمايت.
في هذا السياق، قال حساب “موسكو نيوز” الخميس 12 سبتمبر/أيلول على منصة إكس: “ردا على استخدامه من قبل أوكرانيا، بدأت القوات المسلحة الروسية أيضا في استخدام حشو الثيرمايت في الطائرات بدون طيار لحرق الجنود الأوكرانيين في الغابات”.
يذكرنا هذا النوع من الأسلحة بالتأكيد بقنابل النابالم التي تعد أبرز الأسلحة الحارقة، خصوصا تلك التي ألقتها الولايات المتحدة على فيتنام خلال تلك الحرب.
وبغض النظر عن الغاية العسكرية من استخدام هذا النوع من المعدات، وجب التذكير بأنه يدخل ضمن خانة الأسلحة المحرمة بموجب القانون الدولي، تماما كما هو الشأن بالنسبة إلى كافة الأسلحة الحارقة مثل الفوسفسور الأبيض والنابالم، بالرغم من أن هناك وجهة نظر لناحية منع استخدام هذه الأسلحة، أثارتها منظمة هيومن رايتس ووتش ومراقبون.
حظر الأسلحة القانونية.. ثغرات قانونية؟
توضح منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير مفصل أنها قامت بتوثيق استخدام الأسلحة الحارقة على مدار السنوات الـ15 الماضية في أكثر من بؤرة توتر في العالم، بما فيها مادة الفوسفور الأبيض.
وتشرح المنظمة الحقوقية بأن الأسلحة الحارقة تحتوي “على مركبات كيميائية مختلفة، مثل النابالم والثيرمايت، التي تشتعل وتتسبب في معاناة إنسانية كبيرة وقت الهجوم، وفي الأسابيع والأشهر وحتى السنوات التالية”.
كما تشير هيومن رايتس ووتش إلى البروتوكول الثالث لاتفاقية الأسلحة التقليدية والذي يضم 116 دولة، وهو يسعى “إلى حماية المدنيين من استخدام هذه الأسلحة. لكن المنظمة تلفت هنا إلى “ثغرتين تسببا في تقويض فعاليته”.
ما هو الثيرمايت وهل سبق استخدامه في أوكرانيا؟
الثيرمايت عبارة عن مادة معدنية مسحوقة لها خصائص حارقة حين يتم تسخينها. في معظم الأحيان، تستخدمها الجيوش ضد أهداف تكتيكية مثل تخريب قطع المدفعية أو المركبات أو الآلات الحيوية، أو على نطاق أوسع لإشعال الحرائق في المناطق القابلة للاشتعال مثل المدن ذات المباني الخشبية أو الغابات، وذلك من خلال استخدام الأنظمة الجوية أو المدفعية.
فعلا، سبق أن لجأت روسيا بشكل خاص إلى القصف باستعمال الثيرمايت في 2022 لإشعال الحرائق في مناطق واسعة شرقي أوكرانيا لكن الأمر لا يقتصر على الروس، فقد استخدمت أوكرانيا هي الأخرى قنابل الثيرمايت الصغيرة التي كانت قواتها تسقطها بواسطة الطائرات بدون طيار خلال هذا الصراع حتى قبل استحداث طائرات التنين المسيّرة، وكان ذلك الاستخدام السابق شائعا في الحرب ويهدف خصوصا لتدمير المركبات المهجورة.
كيف تعمل المسيّرات المجهّزة بقاذف الثيرمايت وما فعاليتها كسلاح؟
في الأساس، تقوم الطائرات بدون طيار برش مادة الثيرمايت المشتعلة بشكل مستمر أسفل منها على المنطقة المستهدفة خلال شن هجماتها، وهو ما يؤدي إلى رسم خطوط نيران ودخان متتابعة فوق الأشجار أو خنادق الجنود. تتسبب كل واحدة من تلك الجزيئات الملقاة في إشعال حرائق صغيرة، لكنها تتحول إلى خطر داهم حين تكون مجتمعة وهو ما يؤدي إلى اشتعال حرائق أكبر. أعتقد أن انفجارات اللهب الناجمة عن هذه الهجمات تستمر غالبا لأكثر من 20 ثانية.
وبالرغم من أنها قد تسبب حروقا، إلا أنها لن تتسبب في الإيقاع بعدد كبير من الضحايا بشكل عام، ما لم تستهدف عديد الجنود أو الأفراد المنتشرين والمجتمعين بمنطقة محصورة مثل المخابئ أو المنازل. إذ أن التأثير الأساسي لها على الميدان يبقى إشعال الحرائق التي قد تجبر القوات المدافعة عن خط معين في أوكرانيا على الانسحاب من خنادقها أو مواقعها عموما. من الهام أيضا فهم أن مثل تلك المواقع قد تحتوي على تعزيزات خشبية قابلة للاشتعال. وحتى لو عادت القوات إلى مواقعها بعد إخماد النيران، فقد تكون الحرائق قد دمرت المعدات والتحصينات أو أحرقت الغطاء النباتي بما في ذلك الأشجار، والتي كانت تشكل عاملا مساعدا بشكل كبير يسمح للقوات بالتمويه ومن ثمة التملص من مراقبة العدو عبر إخفاء وحماية تلك الخنادق.
في الحقيقة، فإن هذا السلاح له قيمة عسكرية، لكنها لن تتحقق إلا إذا تزامنت مع تنفيذ العمليات التي تحاول استغلال نقاط الضعف في المواقع المحترقة. سنرى لاحقا ما إذا كان من الممكن دمج هذه القدرة في مفهوم عملياتي منسق، أو أنها ستظل مجرد سلاح نفسي وحسب!
هل يحظر القانون الدولي استخدام الأسلحة الحارقة في الحروب؟
في الحقيقة، لا يُحظر القانون الإنساني الدولي استخدام الأسلحة الحارقة، ولكن استخدامها محظور فقط في المناطق المدنية حيث توجد مخاطر كبيرة لإلحاق الضرر بالمدنيين. ينص البروتوكول الثالث من معاهدة الأسلحة التقليدية على ضرورة توخي الحذر في حال تم استخدام الأسلحة الحارقة، لتجنب أو لتقليل الخسائر العرضية في أرواح المدنيين وإصابتهم أو إلحاق الضرر بالأهداف المدنية. ومن ثمة، فإن استهداف الجنود المتحصنين في مناطق تقع خارج التمركزات السكانية كالمدن، وهو ما شاهدناه حتى الآن من الطائرات بدون طيار، يبدو مسموحا به بوضوح ضمن هذه المعايير. لكن إذا كان هؤلاء الجنود قريبين من تجمعات المدنيين، فإن استخدام المواد الحارقة ينتهك تلك القاعدة.
لهذا، وعلى سبيل المثال، أعتقد أن استخدام الثيرمايت لقصف المدن خلال الحرب العالمية الثانية من قبل أطراف النزاع قد انتهك هذه القاعدة بوضوح. وأذكّر هنا خصوصا بأن كل من روسيا وأوكرانيا هما من الدول الموقعة على هذه القوانين. بالرغم من ذلك، فغالبا ما يتم تجاهل البروتوكول الثالث، بالنظر إلى بعض الغموض في نصوصه بالمقارنة مع مسألة الأسلحة الكيميائية المحظورة بشكل أكثر صرامة.
ألحظ أيضا أن موسكو قد استخدمت، أو قدمت إلى دمشق، العديد من الأسلحة الحارقة التي أسقطتها الطائرات الحربية (التابعة للنظام السوري) على المناطق الحضرية المأهولة بالسكان في سوريا خلال النزاع المسلح الذي شهدته البلاد بعد أحداث 2011.
هل سنرى مزيدا من الأسلحة الهجينة خلال الحرب في أوكرانيا؟
من المؤكد أن أية تجهيزات مدمرة يمكن تثبيتها على طائرة بدون طيار صغيرة أو متوسطة الحجم قد تم اختبارها أو سيتم اختبارها قريبا. على سبيل المثال الطائرات بدون طيار المزوّدة بأسلحة حرارية قاتلة للأفراد في المناطق المحصورة مثل المباني. تشمل أمثلة الأسلحة الهجينة أو الغريبة الأخرى: مسامير الطريق الأمنية التي تمنع دخول منطقة معينة، الألغام الأرضية والقنابل الحرارية. وبالتالي، فإن العامل الرئيسي والمتغير الحقيقي بالنسبة إلى هذا النوع من السلاح، هو مسألة القيود المرتبطة بالوزن: بضعة أرطال (من المواد الحارقة بما في ذلك الثيرمايت) بالنسبة إلى الطائرات بدون طيار الصغيرة والرخيصة الثمن، أو بضع عشرات من الأرطال للطائرات بدون طيار الدوّارة الكبيرة الحجم.
من المهم أيضا أن نضع في الحسبان مسألة أن استخدام الطائرات المسيّرة كسلاح ترتبط أيضا بكونها تتيح تثبيت الأجهزة المدمرة عليها، حيث باتت تؤدي مهمات هي في العادة محفوفة بالمخاطر بالنسبة لأي مشغل بشري (الجنود) خلال محاولة تنفيذ مثل تلك العمليات.
ثم إن لغة القانون الدولي الإنساني فيما يخص الأسلحة الحارقة قرب المدنيين تترك مجالا لأكثر من تفسير. فمثلا في المادتين الثانية والثالثة، نجد أنه يمكن استخدام هذه الأسلحة في حال تم “اتخاذ كافة الاحتياطات الممكنة” لتجنب إصابة المدنيين. بالتالي، يمكن لروسيا على سبيل المثال أن تستخدم المواد الحارقة في مدينة ماريوبول ثم تزعم أنها اتخذت تلك الاحتياطات، بالرغم من أن ذلك قد لا يكون ذلك صحيحا. فإذا، يمكن للمرء أن يفسّر معنى كلمة “ممكن”، ومن ثمة يصبح من الصعب تحميل الروس في مثل تلك الحالة المسؤولية القانونية.
ألحظ أيضا أن الفقرة الرابعة من المادة الثانية من البروتوكول الثالث من معاهدة الأسلحة التقليدية تحظر بشكل صريح استهداف الغابات وأي غطاء نباتي آخر باستخدام الأسلحة الحارقة. لكنها تضع استثناء صريحا لاستهداف الوحدات العسكرية في حال كانت منتشرة في الغابات، لذلك، فإن هذا القانون يسمح في نهاية الأمر بهذا الاستخدام على وجه التحديد.