الحرة بيروت ـ خاص
مع تكرار الأزمات السياسية والأمنية في لبنان، تتجدّد الدعوات إلى تشغيل مطار القليعات (مطار رينيه معوض) في محافظة عكار كبديل أو رديف لمطار رفيق الحريري الدولي في بيروت. ورغم إدراج هذا المطلب في البيانات الوزارية لبعض الحكومات المتعاقبة، إلا أن المشروع بقي في إطار الوعود السياسية من دون دراسات جدوى اقتصادية واضحة، ما يطرح تساؤلات حول حقيقة الحاجة إلى تشغيل المطار، وهل هو خيار استراتيجي أم ورقة في معادلة التجاذبات السياسية اللبنانية؟
المطار بين التاريخ والإهمال
يقع مطار القليعات شمال مدينة طرابلس، وعلى بعد كيلومترات قليلة من الحدود السورية. أُنشئ عام 1934 من قِبل شركة نفط العراق، وكان يخدم منشآت النفط في طرابلس، قبل أن يتحوّل إلى قاعدة عسكرية عام 1966 في إطار المساعدات العسكرية العربية إلى لبنان. لاحقاً، جُهّز المطار لاستقبال الطائرات المدنية، لكنه لم يُستخدم إلا لفترات قصيرة، أبرزها بين عامي 1988 و1990 حين تم تشغيله مؤقتاً كمطار داخلي.
تبلغ مساحة المطار حوالي 5.5 مليون متر مربع، ويحتوي على مدرج طوله 3200 متر، وهو مؤهل فنياً لاستقبال الطائرات، لكن بنيته التحتية قديمة وتحتاج إلى تأهيل شامل.
كلفة إعادة التأهيل والتشغيل
وفقاً للتقديرات الأولية، فإن تشغيل مطار القليعات يتطلّب استثمارات تقارب 300 مليون دولار، موزّعة على أربع سنوات لتنفيذ الأشغال الأساسية. ومع ذلك، يمكن للمطار استقبال الطائرات خلال ستة أشهر من بدء عمليات التأهيل، وفقاً لبعض الخبراء. هذه الكلفة تضع المشروع أمام تساؤلات جوهرية حول جدواه الاقتصادية ومصادر التمويل المحتملة، سواء من الحكومة اللبنانية أو من استثمارات خاصة أو شراكات دولية.
مطار بيروت: ضغط متزايد أم قدرة استيعابية كافية؟
تشير الإحصاءات إلى أن متوسط حركة الركاب السنوية في مطار بيروت بين عامي 2022 و2024 بلغ حوالي 6.3 مليون راكب. ومع توقعات بزيادة الطلب على السفر خلال السنوات المقبلة، يبدو من المنطقي البحث عن حلول لتخفيف الضغط عن المطار الرئيسي. لكن يبقى السؤال: هل يمثل تشغيل مطار القليعات حلاً عملياً في ظل غياب خطط نقل متكاملة تربطه بالمناطق الأخرى؟
إن أي مشروع بحجم مطار جديد يحتاج إلى دراسة جدوى واضحة، تأخذ بعين الاعتبار عدد المسافرين المحتملين، سواء من لبنان أو من دول الجوار، وخاصة سوريا. فهل يمكن للمطار أن يجذب حركة طيران كافية لتبرير نفقات تشغيله؟ وما هو عدد أبناء الشمال الذين يستخدمون مطار بيروت حالياً؟ هذه الأسئلة لم تُطرح بعد بشكل علمي ودقيق.
المطار في البيانات الوزارية: وعود مؤجلة
منذ توقيع اتفاق الطائف عام 1989 وحتى الحكومة الحالية برئاسة نواف سلام، تعاقبت 21 حكومة، لكن بيانات حكومتين فقط تطرّقت صراحة إلى تشغيل مطار القليعات:
- حكومة الرئيس نجيب ميقاتي (2011-2014): “في مجال النقل الجوي فإن الحكومة ستعمل على تشغيل مطار رينيه معوض في القليعات”.
- حكومة الرئيس نواف سلام (2025): “وتشغيل مطار رينيه معوض في القليعات لأهميته الإنمائية”.
رغم هذه الوعود، لم تتحوّل أي منها إلى خطوات عملية على الأرض، ما يعكس مدى تسييس الملف، بدل التعامل معه كخيار اقتصادي مدروس.
يواجه المشروع عقبات كبيرة، أبرزها:
- غياب البنية التحتية: الطرق المؤدية إلى المطار، خصوصاً طريق طرابلس-القليعات، في حالة سيئة، ما يعيق ربطه بالمناطق الأخرى.
- العامل الأمني: قرب المطار من الحدود السورية يثير تساؤلات حول سلامة التشغيل، خاصة في ظل الأوضاع الأمنية غير المستقرة في سوريا.
- غياب استراتيجية النقل المتكاملة: لا يمكن تشغيل مطار دون شبكة مواصلات تدعمه، مثل القطارات أو وسائل النقل العام الفعالة.
- التفاهم مع سوريا: نظرياً، يمكن أن يكون المطار خياراً جذاباً للمسافرين السوريين، لكن ذلك يتطلب تفاهماً سياسياً بين بيروت ودمشق، وهو أمر غير محسوم حتى الآن.
بين الحاجة الاقتصادية والرهان السياسي
إن تشغيل مطار القليعات يجب أن يكون قراراً اقتصادياً وتنموياً بالدرجة الأولى، وليس مجرد أداة في الصراع السياسي المحلي. فإذا كانت هناك جدوى اقتصادية فعلية، فالمطلوب إعداد دراسة تفصيلية تُحدد عدد المسافرين المحتملين، والخطوط الجوية المستهدفة، وآليات التمويل. أما إذا كان الهدف سياسياً فقط، فمن المرجح أن يبقى المطار مجرّد ملف يُطرح عند الأزمات، ليُطوى مجدداً دون تنفيذ.
السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل يمكن أن يكون تشغيل مطار القليعات خطوة في اتجاه تحقيق توازن سياسي واقتصادي، وكسر احتكار بعض الجهات لمرافق الدولة الحيوية، أم أنه سيبقى أسير التجاذبات السياسية والصراعات الداخلية كما حصل في ملفات أخرى؟