الحرة بيروت – بقلم: المحامي وائل همّام
مهزوماً في الحرب…
لطالما تبجّح أمين عام حزب الله السابق كما وكافة قياداته وعناصره المنضبطين وغير المنضبطين بأنهم جنود في ولاية الفقيه، جناح من الحرس الثوري الايراني، يأكلون ويشربون ويأتمرون ممّن يسمّونه المرشد الأعلى آية الله الخامنئي، وتبعاً لذلك، فإن جوهر وجودهم مبني على رضى آية الله ومدى التزامهم بالأوامر، وإلّا قُطعت شرايين الحياة وبات الزوال النهائي هو المصير. فالمال إيراني، والسلاح إيراني، والعقيدة الإسلامية إيرانية، وهي أساس حزب الله ودونها لا وجود له.
بتاريخ 8/10/2023، عقب عملية طوفان الأقصى في فلسطين المحتلة، قرّر أسياد حزب الله وجوب دخوله وإدخال لبنان في آتون الحرب إسناداً لغزة، وطبعاً مستفردين كالعادة على الصعيد الداخلي بقرار السلم والحرب. هي حرب إسناد لا ناقة للبنان فيها ولا جمل، علماً أن قراراً مماثلاً يشكّل بحدّ ذاته جريمة ضدّ الإنسانية بحق اللبنانيين. فلا حزب الله يمثل الدولة اللبنانية من جهة، ولا الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تسمح بهكذا مغامرة متهوّرة من جهة أخرى.
على مدى أربعين عاماً، تكبّر حزب الله واستكبر على العدو الإسرائيلي، كما على إخوته في الوطن. فتفاخر بسلاحه في 7 أيار، واستصغر العدو الإسرائيلي واصفاً إياه بأنه أوهن من بيت العنكبوت، وبأن سبع دقائق ونصف هي كافية للقضاء عليه، مستنداً إلى قاعدة شعبية كبيرة وثلاثمائة ألف صاروخ، ومائة ألف مقاتل.
في أواخر أيلول/سبتمبر من العام 2024، وبعد حرب عام سمّيت ضمن قواعد الاشتباك، كشّر العدو عن أنيابه في وجه ما يسمّى بالمقاومة، وفتح نار جهنم، ليتبيّن أن بيت العنكبوت ليس بواهن، وأن حزب الله وقوته المزعومة عبارة عن قصة خيالية على غرار إخراجات Walt Disney. فخدع العالم بأسره، بدءاً من بيئته الحاضنة، مروراً باللبنانيين، وصولاً إلى العالم أجمع. وكأن الحقيقة أن الحزب هو عنكبوت إيراني، وإنما بلا بيت.
فبيته تم بيعه، وسكان البيت تمّت التضحية بهم والتبرّؤ منهم على قاعدة “لا ولادي ولا بعرفن”. فتدمّر الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية وأجزاء من بيروت العاصمة، ونسفت المخازن والأسلحة، وتمّ اغتيال قادة الصف الأول في حزب الله، واحتلال جزء من جنوب لبنان. وكالعادة، نزح أهل الجنوب والبقاع والضاحية، وزحف من تبقى من عناصر الحزب ليختبئوا بين المدنيين في المناطق التي كانت تعدّ آمنة، مستخدمين العزل كدروع بشرية، في محاولة لاستجداء العطف بادّعاء أن إسرائيل تستهدف المدنيين.
ولسنا هنا طبعاً بصدد تبرئة إسرائيل من جرائمها وجبروتها وغطرستها ووحشيتها وعنصريتها. فهي عدو غاشم، مجرم، يقتات من دماء الأبرياء والأطفال والنساء. وما دام حزب الله يعلم مدى وحشية إسرائيل، فلماذا تعريض المدنيين لهذا الخطر؟؟
على أثر الحرب، استلم رئيس مجلس النواب نبيه بري مفاوضات وقف إطلاق النار برعاية أميركية، ووافق على شروط حزب الله بعد صولات وجولات خاضها كبار القادة الإيرانيين للاطّلاع وفرض التعليمات، فانتصر حزب الله كعادته… ولكن على من؟
…منتصراً في السياسة
في الشكل، تشكّل الاتفاقية المبرمة بين الحكومتين اللبنانية والإسرائيلية اعترافاً صريحاً من الدولة اللبنانية بالدولة الإسرائيلية للمرة الثانية على التوالي بعد اتفاقية ترسيم الحدود البحرية.
والأمر المثير للجدل أن الحكومة اللبنانية كانت “آخر من يعلم” بالمفاوضات وببنود الاتفاقية، حيث أن رئيس حركة “أمل”، رئيس مجلس النواب نبيه برّي، كان المفاوض الوحيد، وهو ما يتناقض مع أحكام المادتين 53 و62 من الدستور اللبناني. وبالتالي، يكون الثلاثي الشيعي الإيراني قد صادر صلاحيات الدولة اللبنانية وانتهك دستورها.
أما في الأساس، فإن بنود الاتفاقية كافة تلقي كلّ مسؤولية تنفيذ الالتزامات على الدولة والحكومة والجيش اللبناني إضافة إلى القوى المسلحة الشرعية، وتحرّر حزب الله من أي التزام، أي من أي عقاب في حال الإخلال بالاتفاقية، وهنا يتجلى “أرنب” نبيه بري وانتصار حزب الله.
وإذا ما عرّجنا على الشق العسكري، فنجد أنه لا لزوم للغوص في الهزيمة النكراء والمذلة التي مني بها حزب الله، كما لا داعي للنقاش فيها.
سياسياً، وتحديداً في الشق السياسي الداخلي، فإن حزب الله اليوم أقوى من أي وقت مضى، لا بل هو الأقوى حالياً، حيث نجح بموجب الاتفاقية في زج الدولة اللبنانية في الصراع وتكبيدها التزامات كبيرة قد لا تكون قادرة على الوفاء بها وتنفيذها بدونه، فأصبح بحوزة حزب الله ورقة رسمية تمنحه القدرة على ابتزاز كافة القوى السياسية والمواطنين وحتى الدولة… ولمدى الحياة.
كيف سيتمكّن الجيش اللبناني من معرفة مواقع المخازن والخنادق والمعامل دون حزب الله؟ ومن سيلجم مناصري الأخير وعناصره “غير المنضبطين” ويكفل عدم تعرضهم للجيش أثناء قيامه بواجبه؟ ومن يضمن عدم تعريض الأمن الداخلي لهزات وخضات نحن بغنى عنها؟ وحتى لو سلّمنا جدلاً أن إسرائيل ساهمت في تزويد الجيش اللبناني بخرائط لتلك الأماكن، فهل تملكها كلها؟ وإن كانت تملكها فلماذا لم تدمّرها كما دمّرت غيرها؟
نعم، انتصر حزب الله على الداخل اللبناني، فأخذ لبنان أسيراً له مرة أخرى، لكن ليس بقوة سلاحه، بل بقوة سلاح إسرائيل. ذلك لأن عدم تنفيذ بنود الاتفاقية سيعرّض الدولة اللبنانية ومواطنيها لحرب شعواء، ما يجعل حزب الله خارج أي مسؤولية في حال نشوب حرب مستقبلية مع إسرائيل.
ليس هذا فحسب، إنما نجح أيضاً في تحييد بيئته الحاضنة عن الحرب، ولو جزئياً، حيث كانت محصورة به، ليصبح لبنان كله، بجميع أطيافه ومكوناته وأحزابه ومواطنيه، في مرمى النيران الإسرائيلية، في حال الإخلال بالاتفاق.
نعم، نجح حزب الله في مصادرة القرار السياسي في لبنان من خلال ابتزاز اللبنانيين من ناحية تمكين الدولة من تنفيذ التزاماتها، على الأقل للأيام الستين المقبلة. أما السؤال المطروح: كيف سيستغل حزب الله انتصاره وما هي الأثمان التي على الداخل اللبناني أن يدفعها لمنع حرب مستقبلية؟
الأكيد أن أحد فروع الثمن المطلوب هو البقاء، على الأقل سياسياً وتحديداً في سدّة التحكم، إذ إن حزب الله، مجرّداً من سلاحه بعد أن باعه أسياده، لم يعد يملك القوة للسيطرة. وبعد تنفيذ القرار 1701 واتفاق السلام أو الهدنة، ستنتفي علّة وجوده وهي إسرائيل المحتلة.
الثمن هو البقاء، ولكن ما هو مقدار هذا الثمن؟ وهل سيسطع نجم على الساحة اللبنانية من سياسيين تقليديين أو تغييريين أو جدد لرفض الابتزاز والعمل على بناء دولة لبنانية حقيقية لجميع أبنائها، دولة ديمقراطية لا توافقية، دولة قانون ومؤسسات، دولة حرة سيدة مستقلة؟