الجمعة, فبراير 14, 2025
0.4 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

“الإمارة الإسلامية” و”ولاية الفقيه” في لبنان: بين الواقع السياسي والتوازنات الطائفية

الحرة بيروت

لطالما برزت في المشهد السياسي اللبناني دعوات متكررة لإقامة إمارة إسلامية سنّية أو فرض نظام “ولاية الفقيه” الشيعي، سواء من قِبل جماعات متطرفة أو بعض الأطراف السياسية. غير أن دراسة معمّقة للواقع السياسي والاجتماعي والدستوري للبنان تكشف استحالة تحقيق أي من هذين السيناريوهين. فالنظام اللبناني القائم على التعددية الطائفية والتوازنات الدقيقة يمنع أي طائفة من الاستئثار بالحكم، فضلاً عن أن هذه الطروحات غالباً ما تستخدم كأدوات تعبئة سياسية أكثر من كونها مشاريع واقعية.

وهم الإمارة الإسلامية السنّية

شهد لبنان محاولات متعددة من قِبل جماعات متطرفة، مثل “فتح الإسلام” و”داعش”، لإقامة إمارة إسلامية في بعض مناطقه، لا سيما خلال معركة نهر البارد عام 2007. غير أن هذه الجماعات لم تتمكن من إيجاد قاعدة شعبية لها بين اللبنانيين، حتى ضمن الطائفة السنّية التي تشكل نحو 27% من السكان.

وبحسب بعض المحللين، فإن فكرة الإمارة الإسلامية في لبنان غير واقعية على الإطلاق بسبب التركيبة الطائفية للبلاد، حيث لا تستطيع أي جماعة التفرد بالسلطة. كما أن زعماء السنة في لبنان، بمن فيهم مفتي الجمهورية، يؤكدون باستمرار رفضهم لأي مشروع إسلامي راديكالي، معتبرين أن التعددية الطائفية ضمانة لاستقرار البلاد.

“ولاية الفقيه”: نموذج غير قابل للتطبيق في لبنان

على الجانب الآخر، يدعو “حزب الله” وبعض مؤيديه إلى تبنّي نموذج “ولاية الفقيه” المستلهم من إيران، والذي يقوم على سلطة رجل دين يشرف على شؤون الدولة والمجتمع. غير أن هذا النموذج، رغم تبنّيه من قِبل الحزب، لا يجد قبولاً واسعاً داخل الطائفة الشيعية نفسها، فضلاً عن أنه يتناقض مع طبيعة النظام السياسي اللبناني.

فلبنان لا يمتلك البنية الديموغرافية أو السياسية التي تسمح بتطبيق “ولاية الفقيه”، حيث أن الشيعة أنفسهم منقسمون حول هذه الفكرة. كما أن تجربة الإمام موسى الصدر، الذي ركّز على العيش المشترك والتعددية، تدلّ على أن الفكر الشيعي في لبنان لا يتجه نحو حكم ديني مطلق.

العقبات الدستورية والدولية

يستند النظام السياسي اللبناني إلى مبدأ التوازن الطائفي، حيث ينص الدستور في المادة 24 على توزيع المقاعد البرلمانية بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين. كما أن توزيع الرئاسات الثلاث – الجمهورية (للموارنة)، الحكومة (للسنة)، البرلمان (للشيعة) – يجعل من المستحيل سيطرة طائفة واحدة على الحكم.

إضافة إلى ذلك، يحظى لبنان باهتمام دولي كبير، حيث تراقب القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية وإيران التطورات فيه عن كثب. وبينما تدعم إيران “حزب الله”، فإن الدول الغربية ودول الخليج تعارض أي تغيير جذري في النظام اللبناني قد يؤدي إلى سيطرة تيار ديني معيّن، ما يجعل من المستبعد نجاح أي مشروع راديكالي في البلاد.

التوظيف السياسي للخوف من التطرف

على الجانب المسيحي، كثيراً ما تُستخدم فكرة الخطر الإسلامي كأداة سياسية لحشد التأييد الشعبي، خاصة خلال الانتخابات. وتستخدم بعض الأحزاب، مثل “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر”، خطاباً يرتكز على التحذير من إمارة إسلامية سنّية أو “ولاية فقيه” شيعية، بهدف الحفاظ على جمهورها وتبرير مواقفها السياسية الصارمة.

هذا التخويف من خطر السيطرة الإسلامية أصبح أداة انتخابية تستخدمها بعض القيادات المسيحية لحشد الدعم، لكنه لا يعكس حقيقة الواقع اللبناني المتعدد الطوائف. ورغم هذه الخطابات، فإن التهديد الفعلي لإقامة نظام إسلامي متطرف في لبنان يظل محدوداً بسبب التوازنات الطائفية والمؤسساتية.

رفض المجتمع اللبناني للنماذج الدينية المتشددة

على المستوى الشعبي، أثبتت الاحتجاجات اللبنانية، وخاصة انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر 2019، أن اللبنانيين بغالبيتهم يرفضون الأنظمة الدينية المتشددة، سواء السنّية أو الشيعية. فقد رفع المحتجون شعارات تدعو إلى دولة مدنية قائمة على المواطنة والعدالة الاجتماعية، بعيداً عن المحاصصة الطائفية.

إن الجيل الجديد من اللبنانيين لم يعد متمسكاً بالهياكل الطائفية القديمة، بل يبحث عن دولة حديثة قائمة على القانون وحقوق الإنسان. وهذا ما يعزز استبعاد فكرة تطبيق أي نظام ديني صارم في البلاد.

العوامل الإقليمية والتوازنات الدولية

لبنان ليس جزيرة معزولة، بل هو جزء من مشهد إقليمي متشابك، حيث تؤثر فيه التوازنات بين القوى الكبرى. فسوريا، التي تشكل جاراً حيوياً للبنان، لن تسمح بقيام إمارة إسلامية على حدودها، كما أن إسرائيل والأردن تعارضان وجود جماعات متشددة في لبنان. في المقابل، فإن إيران، رغم دعمها لـ”حزب الله”، لا تستطيع فرض “ولاية الفقيه” في لبنان نظراً للضغوط الإقليمية والدولية.

علاوة على ذلك، فإن السعودية والإمارات تدعمان القوى اللبنانية المناهضة للنفوذ الإيراني، ما يخلق توازناً يمنع أي طرف من فرض أجندته الدينية على البلاد.

التحديات الحقيقية: الأزمة الاقتصادية وانهيار المؤسسات

في ظل تركيز بعض القوى السياسية على التحذير من التطرف الإسلامي، يغفل كثيرون أن التهديد الحقيقي للبنان اليوم ليس في إمارة إسلامية أو “ولاية فقيه”، بل في الانهيار الاقتصادي والفساد المستشري. فالدين العام تجاوز 170% من الناتج المحلي، والتضخم وصل إلى مستويات غير مسبوقة، بينما تعاني الدولة من انهيار في مؤسساتها الأساسية.

ويستخدم بعض السياسيين خطاب الخوف من التطرف كوسيلة لصرف الأنظار عن فشلهم في معالجة الأزمة الاقتصادية، ما يعيق أي إصلاحات جدية. وقد أظهرت احتجاجات 2019 أن اللبنانيين يريدون تغييراً حقيقياً يتجاوز الحسابات الطائفية الضيقة.

بناءً على ما سبق، من الواضح أن مشروع إقامة إمارة إسلامية سنّية أو فرض “ولاية الفقيه” الشيعية في لبنان غير قابل للتنفيذ. فرغم وجود أطراف تروّج لهذه الأفكار، فإن البنية السياسية والطائفية للبنان، إلى جانب الضغوط الدولية والرفض الشعبي، تجعل من هذه السيناريوهات مجرد أدوات للدعاية السياسية أكثر من كونها تهديداً حقيقياً.

يبقى التحدي الأكبر أمام لبنان اليوم هو الخروج من أزمته الاقتصادية والسياسية عبر إصلاحات حقيقية تعزز مفهوم المواطنة والدولة المدنية، بدلاً من الاستمرار في الخطابات الطائفية التي تعمق الانقسامات وتعرقل أي تقدم نحو مستقبل مستقر ومستدام.

https://hura7.com/?p=43167

الأكثر قراءة