الحرة بيروت ـ بقلم: وليد المُحِبّ، مُؤَسِّسُ جَمعِيَّةَ صَونِ حَقِّ التَعبير
بِبَهجَةٍ وشَغَفٍ كبيرَين، سَتَصيغُ النُخبَةُ اللبنانية الواعِيَة سِياسيًّا، بِالتعاونِ مع لبنانيّينَ مُثَقَّفينَ تَعَمَّقوا بِتَخَصُّصاتٍ أخرى، دُستورًا جديدًا “صُنِعَ في لبنان”، وسَيَلحَظُ هذا الدُستورُ مُخرَجاتِ العُلومِ السِياسِيَّة، وبِشَكلٍ خاصّ، مُخرَجاتِ عِلمِ الدَستَرَة الحَديثة.
في عمليّةِ بِناءِ الدُستور، مِنَ الأهَميَّةِ بمكان، الاستفادَة مِن تنوُّعِ طرائِقَ التفكير، وهُناكَ الكثيرُ لِيُقالَ ويُتَدارَس، إلّا أنَّ هذِهِ المُهِمَّةُ الحَضاريّةُ المُستَحَقَّة مُنذُ عُقود، تَغدو أسهلَ إذا تمَّت بِجَوٍّ مِنَ المحَبَّةِ والثِقَةِ المُتَبادَلَة وشَغَفِ الإنجاز؛ فهيّا بِنا نتعاوَن، والبِدايَة مَع هذه الخَواطِر الدُستوريّة.
لا ينبغي أن ينصَّ الدُستورُ الجديدُ لِلبنانَ على دينِ الدولةِ ولا حتّى على قَومِيَّتِها، فَمِنَ الضَرورِيّ أن يَشعُرَ كلُّ لبنانيٍّ أنّه أحد المالِكينَ في هذه الدولة، ويكفي التَنصيصُ على أنَّ اللغَة العربيّة هي اللغَة الرسمِيَّة في لبنان، وهذا الأمرُ يكفلُ تبديدَ هاجِسِ مَن قَد يتساءَل عَن نِيَّةِ المُشتَرِع، وما إذا كان يَقصُدُ تَغرِيبَ لبنان.
يُنَبِّهُ عِلمُ الدَستَرَةِ الحَديثَةِ مِن خَطَرَينِ ينبغي تفاديهما أثناءَ صِياغَةِ الدساتير:
1- السَردِيَّةُ الخَيالِيَّةُ السَلبِيَّة Récit fictif négatif
2- القضايا المُثيرَةُ لِلشِقاق Des question qui divisent
إنَّ دستورَ لبنان الحالي يَنطَوي على الخَطَرينِ المَذكورَينِ معًا؛ أي على سَردِيَّةٍ خياليَّةٍ سَلبِيَّةٍ وعلى قَضِيَّةٍ مُثيرَةٍ لِلشِقاق، فكيف ذلِك؟
لقد احتَوى دُستورُ لبنانَ على سَردِيَّةٍ خَيالِيَّةٍ سَلبِيَّةٍ بِجَعلِهِ “العَيشَ المُشتَرَكَ” مِحوَرَ الدُستور، فبهذا همسَ الدستورُ في أذنِ كلِّ لبنانيٍّ قائِلاً أنَّ لبنانَ ليسَ وطَنَ “العَيشِ الواحِد”، وأنَّ الإنسانَ اللبنانِيَّ ليسَ مُواطِنًا بَل هو أحَدُ الرِعيان، وهَوِيَّتُه الأولى تَتَمَثَّلُ في أنّهُ إمّا مُسلِم، وإمّا مَسيحي، وإمّا دُرزي، وإمّا عَلَوي.
مِن جِهَةٍ ثانِيَة، نَقلَ اتِفاقُ الطائِفِ دُستورَ لبنانَ مِن سَيّءٍ إلى أَسوَأ، حينَ أرادَ مُعالَجَةَ الضَبابِيَّةَ في عِبارَةِ “لبنان ذو وَجهٍ عَرَبِيّ” فأثارَ الشِقاقَ بين اللبنانيينَ بالتَنصيصِ على عِبارَةِ “لبنان عَرَبِيُّ الهوِيَّةُ والانتِماء”، وكأن ليسَ في لبنانَ شَرائِحَ غَير عَرَبِيَّة، مِثل الأرمَنِ والأكرادِ والكِلدانِ والسِريانِ والآشور.
إنَّ مُهِمَّةَ صِياغَةِ دُستورٍ جديدٍ لأيّ بَلَدٍ- وبِخلافِ ما تَعتَقِدُ غالِبِيَّةُ النُخبَةِ اللبنانِيَّةِ المُتَعَلِّمَة- ليسَت مُهِمَّةً حُكومِيَّةً ولا بَرلمانِيَّة، فرَغمَ أنَّ البَرلُمان والحُكومَة هُما صُنّاع القوانين، وصحيحٌ أنَّ الدُستور هو القانون الأعلى في البِلاد، إلا أنَّ الدستورَ هو الذي يخلقُ السُلطَةَ وليسَ العَكس، وعُقبَ انتِهاءِ النُخبَةِ الواعِيَةِ سِياسِيًّا- المُتَعاوِنَة مَع جَميعِ مُثَقَّفي المُجتَمَع- مِن صياغَةِ دُستورِ لبنانَ الجَديد، سيَبرُزُ أمامَنا سَبيلان:
السبيلُ الأول- يَتِمُّ السير بالدُستورِ الجديدِ في حال كانَتِ السُلطَة مُتعاوِنَة، وعِندَها تَتَبَنّى السُلطَةُ الدُستورَ الجَديدَ فَتَطرَحُهُ على الاستِفتاءِ الشَعبيّ، ثُمَّ تَعتَمِدُهُ بِحَسَبِ ما يَرِدُ في صُلبِهِ بِخُصوصِ تاريخِ سَرَيانِه، وإجراءاتِ تَطبيقِه.
السبيلُ الثاني- إذا تعنَّتَت السُلطَةُ ورَفَضَت تَبَنِّي الدُستورَ الجَديد، وتَجاهَلَت مَحاسِنَهُ رَغمَ استيفائِهِ لِلشروطِ العِلمية والمَعايِيرِ الدَولِيَّة، يتمُّ تواصُل واضِعي الدُستورِ الجَديدِ مَعَ جِهَةٍ دَولِيَّة، مَوجُودَةٌ ومُتَحَفِّزَة، لا عَمَلَ لها إلا تعزيز الديمقراطية عبرَ العالم، ولها باعٌ طويلٌ في دَعمِ عمليات بناء الدستور، وآزرت مِرارًا النخب التغييرية في دول خلعت عن نفسها ثوب التخلف، ونجحت في تثبيتِ دساتير ذات أبعاد وطنية مستدامة.
قد يَقولُ قائِل: “هل تَنوُونَ استِدعاءَ الخارِج”؟
الإجابَة على هذا القول هي أنَّ الذينَ يَستَدعونَ الخارِج ويَخضَعونَ لِتَعليماتِه، هُم المُمسِكون بِالسُلطَةِ ولَيسَ نَحن، هذا أوَّلاً. ثانِيًا، نَحنُ لَن نَدعو إلى التَواصُلِ مَعَ تِلكَ الجِهاتِ- حَسَنَة النِيَّة وطيبة السُمعَة- إلا إذا تَعنَّتَتِ السُلطة اللبنانِيَّة وأصَرَّت على الستاتيكو القائِم، الذي يَمنَعُ تَعميمَ الخَيرِ على كُلِّ المُجتَمَع.
وقَد يَقولُ قائِل: “هَل يَخفى عَليكُمُ أنَّ هُناكَ تآمُرًا دَولِيَّا وأنَّ لِلمُنَظّماتِ دَورٌ في سِياقِه”؟
الإجابَة على هذا القول هي أنَّ نظرِيَّةَ المُؤامَرَةِ خطيرَةٌ لِلغاية، ورَغمَ وجودِ التآمُرِ بِالفِعل، ينبغي علينا ألا نَرتابَ مِنَ التعاطي مَعَ سائِرِ الجِهات، فنخسَرَ الصالِحَ مِنها بِجَريرَةِ الطالِح، وفي المُحَصِّلَة العَمَلِيَّة، تَحَوَّلَت نظرِيَّةُ المُؤامَرَةِ بِمَفهومِها العَشوائِيِّ إلى أداةٍ لِتثبطِ العَزائِمِ ولِتبريرِ الفَشلِ والكَسل. فهيَّا بِنا نَشحَذُ هِمَمَنا، ونُحاوِلُ بِدايَةً مَعَ العَهدِ الجَديدِ في لبنانَ بِالسُبُلِ الودّيةِ لِدَفنِ دُستورِ الطائف، مَع ما يَتَطَلَّبُ ذلِكَ مِن إعلاءٍ لِشأنِ رَغبَةِ الشعب اللبناني على شأنِ التوجيهاتِ الخارجِيَّةِ عامَّةً والسعودِيَّةِ خاصَّة، وفي حالِ تجاهُلِنا نَنتَقِل إلى الخِطَّةِ “ب”، ونَتواصَلُ مَع المُنظّماتِ الدَولِيَّةِ المُشارِ إليها، فتِلكَ المُنَظّمات لا تُبادِر هِيَ في حالِ تقاعَسنا نَحن، ذلِكَ أنَّها تتفادى أن تُتَّهَم بانتِهاكِ السيادَةِ اللبنانِيَّة، ولِكَي تَتَحَرَّكَ بِفَعالِيَّة، عَلينا أن نَطلُبَ مِنها- جهارا نهارا وبِرأسٍ مَرفوع- أن تَلتَفِت إلى الحالةِ اللبنانيةِ المُستَعصِيَة، وبِصِفَتِنا نُخبَةٌ لبنانِيَّةٌ وَعَت سِياسِيًّا، تؤازِرُها شَريحَةٌ واسِعَةٌ مِنَ المُثَقَّفينَ اللبنانِيّين، نُؤَكِّدُ لِلعالَمِ أجمَع أنَّنا في لبنان، قَد بَلغنا رُشدَنا السِياسِيّ، وأنَّه آن الأوان لِكَسرِ قِشرَةِ البَيضَةِ والخُروجِ إلى حَياةٍ كالحَياة.