جريدة الحرة
بقلم: د . بشير عصمت – باحث وأستاذ جامعي في التاريخ الاجتماعي والسياسات العامة.
أيّها العمّال، لم يُخلق عيدكم ليكون ذكرىً حزينة، ولا مناسبةً للنحيب على أطلالٍ جُرّدت من معناها. كان عيدكم إعلانًا صريحًا أن العمل كرامة، وأن الكادحين هم من يصنعون التاريخ لا من يقتاتون عليه. لكن في هذا البلد، سُرق العيد كما سُرقت الأجور، كما سُرقت النقابات، كما سُرقت البلاد. لا ترفرف رايات النضال بل رايات الزعامات. لا يُسمع صوت النقابي بل صوت الوليّ السياسي. لا يُكرّم العَرق، بل يُقايض الخبز بالولاء.
من الذي جعل لبنان بلداً بلا طبقة عاملة فاعلة؟ من جرّدكم من هويتكم، وجرّكم من ساحات التضامن إلى خنادق الانقسام الطائفي؟ من صادر نقاباتكم، وعلقها على أعتاب الطوائف، وتركها مرتعًا للمال الأسود، والصفقات المشبوهة، ومراكز النفوذ؟ من حوّل ممثلكم إلى موظف عند زعيم، وإلى شاهد زور على انهياركم؟ أيّها العمّال، لقد طُعِنتم في الظهر ممن افترضتم أنه درعكم وضميركم وصوتكم.
أيّ عيد يُحتفل به اليوم في بلدٍ اختنق فيه الحرف، وصمت فيه المصنع، وتحوّلت فيه اليد العاملة إلى يد ممدودة لا منتجة؟ أيّ عيد في وطنٍ تُصادر فيه الأجور، وتُنهب فيه التعويضات، وتُسرق فيه الضمانات الاجتماعية تحت ذريعة “الإنقاذ المالي”؟ من الذي رماكم في الشوارع تتوّسلون المساعدات أو فرصة عمل؟ من الذي أجبر أبناءكم على الهجرة أو الانتحار أو الغرق في المخدرات؟ إنها نفس العصابة التي تتقن دفن الحقيقة خلف شعار الطائفة، وتخدير الوجع بالوعود والمذهبية.
أنتم اليوم لا تشبهون عمّال العالم، لا لأنكم أقل شأنًا، بل لأن النظام جعلكم خارج التاريخ. أنتم وحدكم من يُستَغلّ باسم المذهب لا باسم السوق. وحدكم من يعمل ويصمت لأن النقابة صارت أداةً للترويض، والراتب صار أداةً للذل، والخبز مشروطٌ بالخضوع. أما التضامن؟ فجرى تجريده من معناه حين صار البعض منكم يلعن زميله العامل، لا من سرّحه ولا من استبدله.
هل يعقل أن يصبح العامل مأجورًا لدى سيده الطائفي، ويحمل السلاح دفاعًا عن زعيمه، ويهلل لخرابه باسم الانتماء؟ هل نسيتم أنكم كنتم الصوت الأعلى؟ أنكم كنتم تصرخون من بكفيا وزحلة وبعلبك وبيروت وبنت جبيل، لا من وراء الشاشات ولا من خلف خطوط الطاعة؟ هل نسيتم أن أجسادكم هي التي شيّدت الوطن، وسواعدكم هي التي حفظت الكرامة، وعرقكم هو الذي صنع القيمة؟ متى أصبحتم خائفين من كلمة “طبقة”؟ متى ارتبكتم من وصف “كادحين”؟ متى صرتم تخشون أن تكونوا على حقّ؟
من وادي خالد إلى مارون الراس، ومن جونية إلى الهرمل، ومن طرابلس إلى صور، المسافة واحدة: خضوعٌ، وسكوتٌ على الجوع، ورضى بالمقسوم المفروض قهرًا. قُسّمتم مناطق، ففُرّغت مناطقكم من شبابها، واستُبدلت الوظائف بالزبائنية، والمعمل بالخيمة الانتخابية. واليوم، تكمل التقنية الحديثة ما بدأه النظام: تُطردون من العمل باسم التحديث، ويُقال لكم أن الروبوت أذكى منكم، وأرخص منكم، وأوفى منكم. لا تأهيل، لا حماية، لا خطط. فقط خطابٌ فوقي يقول إن “العالم تغيّر”… دون أن يتغير شيء لمن يكدّ ويجوع.
أيّها العمّال، هل ضاق بكم التضامن إلى حدّ الانقلاب على المقهورين في تنافس على لقمة العيش؟ هل بلغ بكم الغضب أن تصوّبوا على الأضعف منكم، بدل أن تُسمّوا المجرم الحقيقي؟ من شرّع أبواب الرقيق الحديث؟ من أغرق السوق بالعمالة الرخيصة دون حماية لكم أو لهم؟ من حوّلكم من عمّال إلى فائض بشري؟ غضبكم يجب أن يُصوَّب لا على المهاجر الفقير، بل على منظومةٍ نهبت، وقسّمت، وفرّقت، ودمّرت.
تسألون: ما الذي تغيّر؟ الجواب: أنكم تراجعتم. أنكم غادرتم الساحات، وصمتّم حين جرى إخصاء النقابات، وقبلتم بأن تكونوا أدوات طائفية لا قوّة طبقية. أنتم من صنع هذا العيد، يوم قرّرتم أن الكادح يستحق الحياة، وأن الوطن لا يُبنى من فوق بل من تحت. لم يدفعكم أحد لتبنوا حزب الشعب. لم يُمل عليكم شيء. كنتم أنتم الرؤيويين، أنتم الطليعيين. سياديون قبل أن تُنهب السيادة، وطنيون قبل أن تُشترى الوطنية وتباع، منفتحون على الكون قبل أن يُغلق الوطن أبوابه على طوائفه.
فهل يجوز أن نراهن عليكم مرة أخرى؟ نعم، يجوز. بل يجب. لا لأننا بلا خيارات، بل لأن الرهان على الشرفاء لا يُخسر. لأن من صنع التاريخ مرة، قادر على كتابته من جديد.
قوموا من ركام التعب. حرّروا نقاباتكم من أيدي الطغمة الطائفية. استعيدوا عيدكم من الذين صادروا الخبز والأمل والكرامة. هذا يومكم. ليس يوم الزعماء ولا الممولين ولا الطوائف.
لأن الأول من أيار هو عيدكم… عيد العمال وليس بأي حال عيد العمل. لأن العيد لا يُعطى، بل يُنتزع. لأن الطبقة العاملة لا تموت… إن عرفت عدوّها.