خاص – تلعب فرنسا دوراً محورياً في استقلالية قطاع الدفاع الأوروبي. لكن الخبراء يحذرون من أنه سيتعين على البلاد تجاوز العقبات، ولا ينبغي لها أن تمضي قدماً بمفردها. وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد بدأ بالفعل في الترويج لما أسماه “الاستقلال الاستراتيجي” في عام 2017. وأكد في جامعة السوربون في باريس: “عندما يتعلق الأمر بالدفاع، فإن هدفنا يجب أن يكون أن تمتلك أوروبا القدرة على العمل بشكل مستقل، إلى جانب حلف شمال الأطلسي”. لكن في ذلك الوقت، لم تجد دعوته أي آذان صاغية في الاتحاد الأوروبي، وخاصة لدى المستشارة الألمانية يومها، أنجيلا ميركل.
استجابة الاتحاد الأوروبي للواقع الجيوسياسي الجديد
بعد ثماني سنوات، تغيرت العقلية.بسبب حرب أوكرانيا. ومؤخراً، انتُخب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة لولاية ثانية، وهو يُصرّ على أن بلاده لم تعد ضامنة لأمن أوروبا. وقد استجاب الاتحاد الأوروبي للواقع الجيوسياسي الجديد بالإعلان عن رغبته في إنفاق 800 مليار يورو (882 مليار دولار) على الدفاع حتى عام 2030 في إطار برنامج “إعادة تسليح أوروبا”.
وتخطط عدة دول في الاتحاد الأوروبي لزيادة إنفاقها الدفاعي الوطني، بما في ذلك إسبانيا وإيطاليا وفرنسا. ومن المقرر أن تتضاعف ميزانية الدفاع في باريس، والتي تبلغ حاليا نحو 50 مليار يورو – نحو 2% من الناتج المحلي الإجمالي الفرنسيي – بحلول عام 2030. ويقول خبراء الاقتصاد إن ذلك من شأنه أن يعزز النمو الاقتصادي في فرنسا بنسبة تصل إلى 1.5%.
تقول، فاني كولومب، المحاضرة في جامعة العلوم السياسية الفرنسية في غرونوبل، إن شركات الدفاع الفرنسية البالغ عددها 20 ألف شركة والتي توظف نحو 200 ألف شخص تشكل العمود الفقري لقطاع الدفاع في القارة. وأضافت كولومب، المتخصصة في اقتصاديات الدفاع: “لدى فرنسا فاعلون في جميع قطاعات القطاع. لقد حافظنا على هذه المهارات منذ ستينيات القرن الماضي، على عكس بعض الدول الأخرى”.
وتابعت: “لقد خفضنا نفقاتنا بعد نهاية الحرب الباردة في تسعينيات القرن العشرين، ولكن الهجمات الإرهابية على مركز التجارة العالمي في نيويورك والحرب على الإرهاب التي تلتها أدت إلى عكس ذلك الاتجاه”.
فرنسا و”ثقافة الحرب”
تعتقد سيلفي ماتيلي، وهي خبيرة أخرى في شؤون الدفاع، أن كل ذلك ساهم في الحفاظ على “ثقافة حرب” معينة في المجتمع الفرنسي. وتقول مديرة معهد جاك ديلور، وهو مركز أبحاث مقره باريس: “يجب أن نكون قادرين على فهم طبيعة التهديد لتحديد الأسلحة اللازمة”. وأضافت: “لقد حافظت باريس على هذه القدرة على التحليل العسكري، على عكس دول مثل ألمانيا”.
وبرأيها، فإن فرنسا أصبحت رائدة في ما يتعلق بقدرات ما يسمى “أنظمة الأنظمة”، وهي مجموعة من الأنظمة الفريدة التي تؤدي مهمة مشتركة من خلال الجمع بين التأثير التآزري لأنظمة متعددة،” وفقاً لقائمة المصطلحات التي جمعتها جامعة الاستحواذ الدفاعية الأمريكية (DAU) في فورت بيلفوار بولاية فرجينيا.
ووفق ماتيلي، يشمل ذلك، على سبيل المثال، المنتجات ذات التقنية العالية مثل طائرات رافال الفرنسية المقاتلة أو حاملة الطائرات شارل ديغول. “في غضون ذلك، خفضنا إنتاجنا من الأسلحة الخفيفة والذخائر بشكل كبير. ظننا أنه من السهل استئنافه، لأن هذه المنتجات أقل تعقيداً”، كما أضافت. علماً بأن حاملة الطائرات النووية الفرنسية تبحر من قاعدة تولون البحرية في مهمة تستغرق عدة أشهر إلى شرق البحر الأبيض المتوسط.
وأوضحت كولومب: “سنحتاج إلى كميات كبيرة من المواد الخام التي يصعب الحصول عليها، لا سيما بعد العقوبات التي فرضناها على روسيا، مورد المعادن المهم، بعد غزوها لأوكرانيا”. وأكملت: “علاوة على ذلك، علينا تدريب المزيد من المهندسين والمتخصصين بشكل عاجل، إذ تشهد قطاعاتنا الصناعية تراجعاً مستمراً على مدى العقود القليلة الماضية”.
وقد يشكل التمويل مشكلة بذاته. ففرنسا تعاني من ارتفاع الدين العام، وتحتاج إلى خفض عجزها بشكل جذري، والذي من المتوقع أن يتجاوز 5% في العام 2025. كما أعلنت الحكومة عن نيتها إطلاق صندوق استثمار دفاعي مشترك عبر بنك الاستثمار العام “بي بي آي فرانس”. وتجري حالياً مناقشة منتجات مالية أخرى لجذب مدخرات المواطنين الفرنسيين.
تزايد اهتمام المستثمرين بعد صدام ترامب وزيلينسكي
في الأثناء، تتوقع وكالة “ديفينس أنجلز” (Defense Angels)، ومقرها باريس، تدفقاً استثمارياً أكبر في العام 2025. فمنذ إطلاقها عام 2021، ضخت شبكة المستثمرين المتخصصة في قطاع الدفاع ما يقارب مليوني يورو في 23 شركة. وخلال الربع الأول من العام 2025، تمكن مستثمروها التسعون من تمويل حوالى 30 شركة ناشئة في هذا القطاع.
يقول فرانسوا ماتينز، المؤسس المشارك ونائب رئيس شركة Defense Angels، إن المواجهة بين دونالد ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض في أواخر فبراير كانت “نقطة تحول”. فقد انتهى الاجتماع دون التوقيع المُخطط له على صفقة المواد الخام، مما زاد المخاوف من احتمال توقف الولايات المتحدة عن تقديم المساعدة العسكرية لأوكرانيا. بيد أن واشنطن استأنفت دعمها بعد انقطاع قصير.
واستذكر ماتينز هذا الحدث، قائلاً إن العديد من المستثمرين “الذين كانوا مترددين في السابق اتصلوا بي بعد ذلك وقالوا إنهم يرغبون في المضي قدماً في استثماراتهم”. ويرى أن هذا الاهتمام دليلٌ إضافي على الدور المحوري الذي يمكن أن تلعبه الشركات الناشئة. “نحن بحاجة إلى الابتكار والتكنولوجيا المتطورة في قطاع الدفاع. الشركات الناشئة الديناميكية أكثر قدرةً على تحقيق ذلك من المجموعات الكبيرة الخاملة”.
ويمكن لشركة كايلابس أن تؤكد زيادة اهتمام المستثمرين منذ الصدام في البيت الأبيض. إذ تنتج الشركة الناشئة، ومقرها رين في فرنسا، أجهزة تعتمد على الليزر توفر الإنترنت وخطوط الاتصال الآمنة – وهي منتجات منافسة لأطباق الأقمار الصناعية Starlink التابعة للملياردير الأمريكي إيلون ماسك.
وصرح جان فرانسوا موريزور، الرئيس التنفيذي لشركة كايلابس، لـDW: “يصعب اكتشاف منشآتنا لأنها لا تعتمد على إشارات الراديو. ومع ذلك، فهي لا تزال كبيرة جداً بحيث لا يمكن نشرها على الخطوط الأمامية”. مع ذلك، تُحقق الشركة نصف إيراداتها من القطاع العسكري، وهي في طريقها إلى الوصول إلى 80%. وتابع موريزور قائلاً: “حالياً، تُباع معظم منتجاتنا في الولايات المتحدة، لكن هذا قد يتغير قريباً، خاصةً عندما تبدأ أوروبا في الاستثمار بشكل مكثف”.
بناء قطاع دفاع أوروبي قوي يتطلب التعاون
وقّعت شركة كايروس، ومقرها باريس، مؤخراً الدفعة الأولى من عقودها الدفاعية. وتستخدم الشركة الناشئة الذكاء الاصطناعي لتحليل التغيرات في صور الأقمار الصناعية. وقد تشمل هذه التغييرات قريباً تحركات القوات العسكرية. ويقول أنطوان هالف، المؤسس المشارك للشركة: “ستلعب فرنسا دوراً هاماً من خلال خبرتها في مجال تكنولوجيا الفضاء، إذ لديها وادي سيليكون مصغر والعديد من مؤسسات البحث الممتازة في هذا المجال”.
لكن ذلك لا يعني أن فرنسا يجب أن تلعب بمفردها. ويبدو أن الخبراء يتفقون على ذلك. إذ تؤكد دلفين ديشو دوتار، الخبيرة السياسية ونائبة مدير مركز أبحاث الأمن الدولي والتعاون الأوروبي في جامعة غرونوبل، أن باريس بحاجة إلى إيجاد النبرة الصحيحة.
وأضافت أنه لا ينبغي الاعتقاد بأن فرنسا ستكون “الزعيم الدفاعي العالمي الجديد الذي سيحل محل الولايات المتحدة”، لأن بناء قطاع دفاع أوروبي قوي يتطلب التعاون مع دول أخرى مثل ألمانيا أو إيطاليا. “نحن بحاجة إلى أبطال أوروبيين لتحقيق وفورات الحجم. على فرنسا أن تكون دبلوماسية، وألا تبدو متكبرة”.