د. جورج شبلي
جريدة الحرة ـ بيروت
عندما تكون يقظة الدولة هي هاجس النّاس، يكون إِثمُ المسؤولين المُتَفَشّي في الصّمتِ، والنَّوم، أشدَّ خطرًا من سُمّ الثّعابين. فكلّما انفتحَت عينٌ، انبرى سؤالٌ بديهيٌّ بدون جواب: هل من جديد في موقف الحكم، بالنسبة لما هو مطلوبٌ لخلاص البلاد ؟
لقد بات الواقع غيرُ البَهيّ مصدرَ رعبٍ للشّعب المقهور، والمُضَلَّل بخطابات وبيانات ذات رنّاتٍ جوفاء، فالإحباطُ ليلٌ طويل، ونهوضُ الوطنِ زَعْم، وطموحُ الأجيال اغتالَ فردوسَه. لم تَعد يوميّات النّاس سوى غَوصٍ في اليأس الذي يُنتج منطقَ العجز، والتّشاؤم، ولا من عَزاء، فالشّعبُ، إزاء الأوضاع الرّاهنة، بريء من منطق الفشل. هنالك فجوةٌ بين المواطنين ومراكز القرار غير القادرة، أو غير الجريئة، أو غير الرّاغبة في الحسم المطلوب، إلّا في تهميش النّاس الذين ما عادوا يملكون التّأثير الفِعلي. وعجزُ الدولة، في هذه الآونة الدّقيقة، ليس إلّا دليل ضعفٍ في كفاءة امتلاك السّلطة، وسِمةً لاستمرار الأزمة القاتلة، وارتهانًا مشهودًا لجماعة الاستقواء، وشَلًّا لإمكانيّة حلٍّ للكارثة المدمِّرة.
هناك حالة انحطاط تنسحبُ على تصريحات المسؤولين، البعضُ منها يعجُّ بالسّياق الطّوباوي، والبعضُ بالقَصّ الرّتيب، والتّكرار البليد، والبعضُ الآخرُ بشيءٍ من النّفَس المَلحَميّ، فكأنّنا نستمع الى حَكَواتي يدهشُنا بخرافات عنترة فارس الفوارس! إنّ عتمةَ الواقع تعلِّقُ النّاس على خشبةٍ من لحمِهم ودمِهم، ومن حقِّهم، عندما يتوجّهون الى أيّ مسؤول، أن يردّدوا ما أوردَه سعيد تقيّ الدّين، على لسان رَجُلٍ قال للمُتعالي: “إغسِلْ عن كلامِك كلَّ عبارةٍ قد تفتحُ جرحًا”.
لم يعدْ يَسَعِ النّاس الذين عُرِفوا بتأصّلهم بمناعة الجبال، إلّا الشّعور بالمرارة، واللّوعة، والأسف، فهم يتحسّسون جسومَهم ليتأكّدوا من أنهم على قيد الحياة، ولا يتأكّدون. إنّهم، في صومعتِهم الموحشة، متقاعِدون عن الفرح، والأمان، والأمل، يُنفِقون أيّامهم من دون هدف، متعطِّشين الى بَصيصٍ يُنهي محطّات النّكبة الموجِعة، ويمهّدُ لغَدٍ أفضل، فهل يأتي؟
ليست غايتي، في هذا العرض، فتح ذاكرة المأساة، بل الدَلّ الموضوعي على وقائعَ لا يمكنُ تَجاهلُها، من خوفٍ، وجوعٍ، وهجرةٍ، وإفلاس، ويأس، وكفرٍ بالوطن… واستنادًا، لا يمكنُ أن نصفّقَ، بعدُ، للمسؤول، وهو متخلِّفٌ في الجرأةِ التي، وحدَها، تؤدّي به الى الإقدام على اتّخاذ قرارٍ كيانيّ، يُنقذُ ما تَبَقّى من كرامةِ الدولة، وسيادة البلاد. فعساه يعملُ على تخصيب هذه الجرأة، وهي فضيلة وطنيّة ذاتُ سُموٍّ، وجِدّ، وهي انجذابٌ الى طقوسِ المسؤوليّة التي يجب أن تكون مُلتَصقة بسلوكه في موقعِ السّلطة.
إنّ الصّدمة الإيجابيّة، اليوم، هي في الكَفِّ عن التردّد، والتّسويف، وشراء الوقت، وهي سفسطاتٌ بالية ومواسمُ بائدة، وذلك للتحوّل، فورًا، الى المواجهة المطلوبةِ من كلِّ الشّعب، واتّخاذ قرارٍ يوجبُ حصريّة السّلاح بالدولة، لينهض الوطن من كَبوَته، وكلُّ ما عدا ذلك باطل.


