بقلم: الدكتور محمد حلاوي، أستاذ جامعي – كلية العلوم الاقتصادية في الجامعة اللبنانية
في الثلاثين من أكتوبر 2022 غادر الرئيس السابق ميشال عون قصر بعبدا بعد انتهاء ولايته دون موافقته على تشكيل حكومة مقترحة من الرئيس نجيب ميقاتي، تاركاً لبنان، وللمرة الأولى في تاريخه، بين فراغين: الأول حكومي (حكومة تصريف أعمال)، والثاني رئاسي .
أسبوعان فقط ويدخل الفراغ الرئاسي في لبنان عامه الثالث في ظلّ ضبابية مطلقة تحيط بالوضع اللبناني الذي بات يربطه كثيرون بتطورات الوضع في غزة، والوضع الأمني المستجدّ داخلياً، أي عدوان إسرائيل على كافة الأراضي اللبنانية، كما التطورات المقبلة في المنطقة بأكملها.
دولياً، تشكّلت لجنة خماسية لمساعدة الأطراف اللبنانية في تقريب وجهات النظر وتجاوز خلافاتهم وتوجهاتهم الداخلية الخاصة وتبعيّاتهم الخارجية، من أجل الوصول إلى انتخاب رئيس للجمهورية. إلّا أن كافة المحاولات باءت بالفشل نتيجة تعارض مصالح الخماسية الخارجية مع الخماسية الداخلية المؤثرة في موضوع الرئاسة (الثنائي الشيعي ومن يؤيّده من نواب آخرين، الحزب التقدمي الاشتراكي، الكتائب اللبنانية، التيار الوطني الحر، والقوات اللبنانية).
بإيجاز، نورد في ما مصالح اللجنة الخماسية:
- مصر: والتي كان لها بصماتها التاريخية الفعّالة في تسمية رئيس الجمهورية اللبنانية منذ انقلاب الضباط الأحرار عام 1952 إلى حين الدخول السوري إلى لبنان سنة 1976.
- الولايات المتحدة الأمريكية: لما لها في لبنان من مصالح اقتصادية وسياسية، وخاصة أمنية (أمن الكيان الصهيوني).
- فرنسا: الأم الحنون للمسيحين في لبنان، ومصالحها الاقتصادية وخاصة بعد بدء الحديث عن الغاز في لبنان، إضافة لإدارة المرفأ وغيرها من المصالح الاقتصادية السياسية والاجتماعية.
- المملكة العربية السعودية: الراعية الأولى للطائفة السنّية، والداعمة الأكبر لاقتصاد لبنان شرط أن يكون شكل النظام الحاكم فيه غير معادٍ لها.
- قطر: لما لها من مصالح اقتصادية بالأخص من ناحية استخراج الغاز، إضافة إلى الدور الجديد لقيادتها على صعيد المنطقة. والأهم قدرتها على التواصل مع “الجانب الإيراني” لما له من تأثير على قرار الثنائي الشيعي، لدرجة أصبح يُطلق على اللجنة “الخماسية زائد واحد”.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تريد الخماسية إنجاز الاستحقاق الرئاسي اللبناني الآن؟ إن المتتبع لمجريات الأحداث يرى أن الخماسية، ومن خلال تشابك وتعارض مصالحها، غير قادرة أو غير مستعدة لإنجاز الاستحقاق، وذلك للأسباب التالية:
- تصريح السفيرة الأمريكية، السيدة ليزا جونسون، في 11 أكتوبر الجاري إلى بعض الجهات اللبنانية “للاستعداد إلى ما بعد مرحلة حزب الله”. وهذا يذكّرنا بما صرّحت به وزيرة الخارجية الأمريكية، غونداليزا رايس، إبان حرب تموز 2006، حين رفضت وقف إطلاق النار واصفة ما يجري وقتها بالمخاض لشرق أوسط جديد، مما يدلّ إذاً أن الإدارة الأمريكية غير مستعدة لإنجاز الاستحقاق لسببين: انتظار نتيجة الحرب الدائرة الآن؛ نتائج الانتخابات الأمريكية.
- تصريح رئيس وزراء ووزير خارجية قطر، معالي الشيخ محمد بن عبد الرحمٰن، يوم الثلاثاء الماضي في مقابلته مع تلفزيون قطر بأن أولوية قطر الآن هي وقف الحرب على لبنان، أما الرئاسة فهو موضوع داخلي لبناني.
- الموقف الفرنسي في الأيام الأخيرة وتوتّر التصريحات بين الرئيسين ماكرون ونتنياهو.
- تسارع الكتل النيابية كافة – عند التمديد لقائد الجيش، العماد جوزيف عون، في 16/12/2023، قبل 25 يوماً من إحالته على التقاعد – إلى مجلس النواب لتأمين نصاب جلسة التمديد، و”بضغط خارجي” من اللجنة الخماسية تحديداً، لإنجاز التمديد وعدم وقوع لبنان في الفراغ الأمني.
كل ذلك يعكس قدرة الخماسية على التأثير على الأطراف الداخلية، غير أنها، وفي موضوع الرئاسة، لها حسابات دولية أخرى.
بالانتقال إلى الداخل، فإن الخماسية الداخلية لها حسابات أخرى أيضاً في موضوع الاستحقاق الرئاسي:
- الثنائي الشيعي: بعد خروج الجيش السوري من لبنان سنة 2005 ودخول لبنان مرحلة الشيعية السياسية، أيقن حزب الله تحديداً أن شخصية رئيس الجمهورية وتوجهاته يجب أن تكون متناغمة مع تطلعاته، خصوصاً بعد انقلاب الرئيس السابق ميشال سليمان على معادلة “شعب، جيش، ومقاومة” مسمّياً إياها بالمعادلة الخشبية. وهذا ما تمّ ترجمته بوصول الرئيس السابق ميشال عون إلى كرسي بعبدا بعد اتفاق معراب بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، حيث لا زالت الأخيرة تدفع ثمن هذا الاتفاق ليومنا هذا.
- الأطراف المسيحية كافة: والتي تتعارض مصالحها وارتباطاتها الخارجية، إضافة لعدم الثقة فيما بينها من جهة، والطموحات الشخصية باعتلاء كرسي بعبدا من جهة أخرى. إضافة إلى أن الخلافات التاريخية بين القوى المسيحية تجعل من هذا الاستحقاق صعب المنال سابقاً وحالياً ومستقبلاً، وفاتحة المجال للآخرين من غير القوى المسيحية لاستغلال خلافاتهم لصالح مصالحها الخاصة.
الرئاسة إلى أين بعد عدوان أيلول/سبتمبر؟
تبدّل موقف الثنائي الشيعي من خلال البيان الثلاثي للرئيس نبيه برّي والرئيس نجيب ميقاتي والوزير السابق وليد جنبلاط، الأسبوع الماضي، الداعي للتوجه إلى انتخاب رئيس توافقي لا يمثّل تحدياً لأي طرف، وفق المادة 49 من الدستور. وهذا مؤشر ضمني غير معلن عن إمكانية التخلّي عن المرشح الوزير السابق سليمان فرنجية. إن هذا التطور يجب أن يترافق مع قناعة الثنائي الشيعي والقوى المؤيدة له بأن تفضيل مصالح الخارج (إيران) على مصلحة الوطن كفيلة بالقضاء على الوطن.
كذلك، فإن تصريح الوزير السابق سليمان فرنجية بعد لقاء عين التينة بداية الأسبوع الجاري بأنه ما زال مرشحاً رئاسياً ولكنه مستعد للتخلّي عن ترشيحه فقط لصالح قائد الجيش جوزيف عون، يفتح ثغرة من حيث إمكانية الوصول الى رئيس توافقي.
إضافة إلى أن اجتماع معراب الثاني يوم السبت الماضي، والذي ضمّ بعض أطراف المعارضة، حيث رفع رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع من مواصفات الرئيس العتيد والتي لا تنطبق إلّا على شخصه، مع علمه المسبق بصعوبة تحقيق حلمه الرئاسي في ظل تركيبة المجلس النيابي الحالي ما يصعّب الوصول إلى رئيس توافقي.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن بيان بكركي يوم الأربعاء الماضي، والذي أكّد على نقطتين أساسيتين: الأولى أن على اللبنانيين أن يثقوا ببعض وأن الوقت ليس مناسباً لتحقيق المكاسب على حساب بعض؛ والثانية، استبدال كلمة رئيس “توافقي” إلى اختيار شخصية “تحصل على أكبر قدر من التفاهم والتوافق”، ما يعني أن المرجعيات الدينية على دراية تامة بالخلافات السياسية والأحلام الشخصية للقوى المحلية، التي تمنع أو تُصّعب الوصول الى إسم رئيس يتّفق عليه الجميع. كما يُشهد للقاء بكركي قدرته على تجاوز خلل التمثيل الطائفي الذي حصل في عين التينة (البيان الثلاثي) الأسبوع الماضي من جهة، ولقاء معراب الثاني الفاقد للميثاقية من جهة أخرى.
أخيراً، لم يعد خافياً على أحد أن لبنان اليوم يواجه أصعب خطر وجودي منذ تأسيسه سنة 1920. فهو بين مطرقة لعبة الأمم (الخماسية) وسندان الخلافات ومصالح وأحلام القوى الداخلية. لذا يتوجب على جميع القوى الوطنية تحمّل مسؤولياتها، وأن تكون مقتنعة بأن الخارج يهتم لمصالحه فقط حتى لوكانت على حساب وجود لبنان كوطن، وأن لبنان وشعبه أهم من مصالحهم وخلافاتهم وأحلامهم. وبالتالي فإن الترفّع عن المصالح الخاصة ووضع المسؤولية الوطنية نصب الأعين هما السبيل الوحيد لإنقاذ الوطن وانتخاب رئيس للجمهورية قبل أن نصبح جميعاً “بلا جمهورية”.