هل أصبح البشر فعلاً أقلّ ذكاءً؟ ربّ قائل إن ليس ثمة نقص في الشواهد. لكن، إن صحّ ذلك، ما هي أسباب تسجيلنا لدرجات أقلّ في اختبارات الذكاء؟ محاولات التفسير كثيرة. من تدنّي جودة النظام الغذائي ومستوى التعليم. إلى انخفاض معدّلات القراءة وانفجار الثورة التكنولوجية. لكن، بغضّ النظر، هناك من يعتقد أن المنحى الانحداري الملحوظ هو نتيجة حتمية لتطوُّرنا وتطوُّر عوامل كثيرة من حولنا.
أوّل مقاييس الذكاء جاءتنا سنة 1905 عن طريق اختبار بينيه – سيمون، تيمُّناً بعالِم نفس وطبيب نفسي فرنسيّين، والذي استُخدم لتحديد التأخّر المعرفي لدى الأطفال. وتلا ذلك سنة 1912 صياغة عالِم النفس الألماني، ويليام ستيرن، لمصطلح “حاصل الذكاء” – أي، قسمة العمر “العقلي” للطفل، بحسب نتيجة اختبار محدّد، على عمره البدني، ثم ضرْب النسبة في 100.
في 1984، نشر عالِم السياسة النيوزيلندي، جيمس فلين، بحثاً أظهر أن معدّل الذكاء لدى الأميركيين ارتفع نحو ثلاث نقاط كل عقدٍ على مدى العقود الخمسة التي سبقت. ومذّاك، كرّت سبحة نتائج بحثية لاحقة تأكيداً على تواصُل ارتفاع معدّلات الذكاء عامةً. من منظار “تأثير فلين”، يعود الارتفاع التدريجي في مستوى الذكاء طيلة القرن العشرين إلى مجموعة عوامل اجتماعية، اقتصادية وعلمية، منها: تحسُّن التغذية، تطوُّر الطب، وطفرة التكنولوجيا. لكن، مع مرور السنوات، بدأ العلماء يلاحظون مواصلة ذاك المعدّل ارتفاعه، إنما بوتيرة أقلّ وضوحاً: 2.4 نقطة لكل عقد بين عامَي 1948 و1985، مقارنة بـ1.8 نقطة بين عامَي 1986 و2020.
تفسير التباطؤ، بحسب الخبراء، لا ينفصل عن واقع تطوّرنا الدماغي والمعرفي. فالدماغ، رغم قدراته، محدود أيضاً من منظار فزيولوجي – عصبي واجتماعي – اقتصادي. مثلاً، دحض فريق باحثين كنديين، في تحليل تجميعي نُشر في شباط/فبراير الماضي في مجلة ScienceOpen، نظرية تفوُّق الطلّاب الجامعيين ذكاءً على سواهم. التحليل تناول دراسات عدّة قاست معدّل الذكاء لدى طلّاب الجامعات بين عامَي 1939 و2022. وأظهرت نتائجه أن معدّل ذكاء هؤلاء انخفض بشكل مطّرد من 119 نقطة تقريباً إلى متوسّط 102 نقطة اليوم ــ أي ما يفوق بقليل متوسط المعدّل البالغ 100 نقطة.
نعود إلى سنة 2018. في دراسة لعالِمَي الاقتصاد الاجتماعي، أولي روجبيرج وبيرنت براتسبيرج من جامعة أوسلو، ثبت أنه بدءاً من المجموعة السكانية المولودة سنة 1975، راح معدّل الذكاء لدى الشبان النرويجيين الملتحقين بالخدمة العسكرية ينخفض تصاعدياً. واكتشف الباحثان أن انخفاض معدّل الذكاء ليس مرتبطاً بالعوامل الوراثية، بل بعوامل بيئية ليست محدّدة المعالم كليّاً.
الاختبار نُشر في مجلة The Proceedings of the National Academy of Science. وكان يتعيّن على الجنود الخضوع له لدى التحاقهم بالخدمة. صحيح أنه صُمّم على منوال اختبارات الذكاء، لكنه لم يُصنَّف تقنياً كأحدها. وقد قُسّم إلى ثلاثة أجزاء: أحدها يتضمن المهارات الرياضية؛ آخر يعتمد على المفردات؛ وثالث يتعلّق بمهارات التفكير المنطقي والتجريدي. وبينما فضّل الباحثون سابقاً استخدام العامل الجيني لتفسير الاختلاف في مستويات الذكاء، مقارنة بالعوامل البيئية، إلّا أن الاختبار المذكور زعزع أسُس التفضيل ذاك. فهو، إذ نظر في درجات معدّل الذكاء لدى أشقّاء وُلدوا في سنوات مختلفة، بيّن اختلاف الدرجات تلك بوضوح بين الأشقاء، بخلاف منطق التفسير الجيني.
في هذا الإطار، هناك من يشكّك بجدوى اختبارات الذكاء نفسها. فهي، كما يقول البعض، تبدّي الذكاء المتبلور (المبني على المهارات المكتسبة والذاكرة قصيرة المدى) على الذكاء السائل (القدرة على استخدام مهارات التفكير المنطقي والتحليل). ويستنتجون أن تركيز المناهج التعليمية على الذكاء السائل راهناً قد يشكّل سبباً كامناً خلف تقهقرنا الفكري المفترَض.
كذلك، هناك من يعزو الأمر إلى نموّ الوظائف الخدمية التي تتطلب مهارات وقدرات دماغية أقلّ، ما يجعل العمل أقلّ تطلباً من الناحية الفكرية. كما ثمة معوّق ثالث يتمثّل بتزايد حدّة افتقارنا إلى التركيز. وهذا يتجلّى، بتأثيراته السلبية، تراجعاً على جبهتين: قدرتنا على تنفيذ المهام المعقّدة واتخاذ القرارات الصائبة؛ وذكاؤنا العاطفي بمكوّناته الأربعة (إدارة الذات، الوعي الذاتي، الوعي الاجتماعي، وإدارة العلاقات) بسبب اتساع الحيّز الذي تحتلّه التكنولوجيا في حياة الفرد.
على سبيل المثال، أشارت مقالة أوردتها مجلةPsychology Today سنة 2016 إلى أن الإجهاد المزمن – وجزء منه يولّده ضغط اتخاذ القرارات – يؤثر على الفص الجبهي لدى الأطفال، ما يؤدي إلى تشتُّت التركيز وتراجُع القدرة على إدارة العواطف وإنجاز المهام. لكن هذا ليس أكثر نواحي المسألة خطورة. فقد حدّدت دراسة مشتركة بين جامعتَي أكسفورد وييل سنة 2018 احتمالاً يفوق النصف بأن يؤتمت الذكاء الاصطناعي مختلف المهام البشرية خلال العقود الخمسة المقبلة وجميع الوظائف البشرية خلال 120 سنة.
توقُّع كهذا من شأنه أن يلقي ضوءاً مختلفاً بشكل جذري على مفهوم الذكاء البشري. وفي ذلك ما يحيلنا إلى جون مارتن سانديت، أستاذ عِلم النفس النرويجي، الذي كان طليعياً في الإشارة إلى انعكاس اتجاه “تأثير فلين” في الدول المتقدّمة في دراسة نُشرت عام 2004. فبرأيه، ليس انخفاض نتائج اختبارات الذكاء مرتبطاً بتحوُّلنا لكائنات أكثر غباءً. بل، بما يستدعي التحليل العميق، قد يكون الذكاء في عصرنا مختلفاً أصلاً عما كان عليه في حقبات سابقة.
وهذا، استطراداً، يطرح سؤالاً جوهرياً: ماذا لو عمّقت أزمة ذكاء عالمية مقبلة – تراجُعاً أو تحوّراً -عجزنا عن التصدّي لتحديات تتكثّف نذائرها من حولنا؟ المتوجّسون كُثر. وهُم ربما على حقّ كون الأخطار محدقة. من هجمة الذكاء الاصطناعي، مروراً بتغوُّل الاحتباس الحراري، وصولاً إلى الرقص على حافة النزاعات النووية. وهكذا، علينا شدّ أحزمة ذكائنا – أو ما تبقّى أو تحوّر منه – بقوّة.