الإثنين, سبتمبر 16, 2024
17.1 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

روني عبد النور ـ أصل الحياة و”لوكا” الذي يجمعنا

قبل أيام، باشرت مركبة “برسفيرنس” الجوالة، التابعة لـ”ناسا”، بمهمّة فضائية جديدة. والهدف استخراج عيّنات صخرية من قمة فوهة “جيزيرو” المرّيخية. للبقعة المستهدَفة مثيلات على كوكبنا تُسمّى الفتحات الحرارية المائية. والأجوبة التي قد تلفظها فوهة الكوكب الأحمر يُحتمل أن تكشف مزيداً من خبايا اللغز المحيّر لآخر أسلافنا المشتركين على الكوكب الأزرق. إنه “لوكا” (LUCA: Last Universal Common Ancestor)، الكائن الحيّ المبكر الافتراضي والمحوري لدراسة التطوّر وأصل الحياة كما نعرفها.

لا يستبعد العلماء أن تكون السلسلة الكيميائية للأحداث المنشئة للحياة على الأرض قد تبدّدت إلى غير رجعة. لكن مع ذلك، ثمة بين أسلافنا الأوائل من خلّف آثاراً في الجينات المنقولة للأحفاد. ففي السنوات القليلة الماضية، سمحت تحاليل الحمض النووي بإعادة رسم شجرة الحياة – كشفاً للعلاقات الوراثية والتاريخ التطوّري للكائنات الحيّة – بتفصيل شبه متناهٍ. إلّا أن الركون إلى عِلم النشوء والارتقاء لم يحُل دون بقاء علامات استفهام كثيرة تحوم فوق هوية سلفنا الأوّل.

أقدم دليل على وجود حياة على الأرض يعود إلى 3.7 مليارات سنة على شكل طبقات الرواسب الميكروبية (الستروماتوليت). وفي حين يشير بعض العلماء إلى أن عمر “لوكا” يقترب من تاريخ ولادة الأرض، أي قبل 4.5 مليار سنة خلت، يشكّك آخرون بحجّة أن إنشاء الشفرة الوراثية وتبلوُر آلية تكرار الحمض النووي يستغرقان وقتاً ليس بقليل. إنما بجميع الأحوال، تنقسم الحياة إلى ممالك ست ذات اختلافات كيميائية وأيضية: النباتات والحيوانات والفطريات والطلائعيات والبكتيريا الحقيقية والعتيقة. وتندرج الممالك الأربع الأولى تحت خانة حقيقيات النوى متعدّدة الخلايا (وفيها الشفرة الوراثية والميتوكوندريا التي تغذّي عملية التمثيل الغذائي للخلية). أما الأخيرتان، فعبارة عن كائنات وحيدة الخلية أو بدائيات النوى.

نرجع إلى سنة 2016 حين صبّ ويليام مارتن، عالِم الأحياء التطوّري في جامعة “هاينريش هاينه” الألمانية، تركيزه على اقتفاء أثر “لوكا”  في جينات البكتيريا والعتائق. لكن تتبُّع الجينات بكتيريّاً صعبٌ لقدرتها على تبادُل المواد الوراثية، ما يعقّد عملية التمييز بين تلقّي بدائيات النوى جينٍ ما من سلفٍ ما أو وصوله إليها من كائن حيّ آخر. كما أن الميكروبات لا تنقل الجينات إلى ذريّتها فحسب، بل تتبادلها أيضاً مع جيرانها في عملية “نقل الجينات الأفقي”. وهذا يصعّب تحديد أحد أمرين: عكْس الجينات الميكروبية المشترَكة بين الميكروبات المنفصلة لسلالة مشترَكة؛ أو تمتُّع بعض الكائنات بأفضلية نشر مادتها الجينية.

بدلاً من التنقيب عن المشترك من جينات بين نوع واحد من البكتيريا والعتائق، وسّع الفريق نطاق بحثه – في دراسة نُشرت في مجلة “Nature Microbiology” – ليطال نوعين على الأقل من البكتيريا والعتائق، توالياً. وفحصوا قواعد بيانات الحمض النووي، خزّان المعلومات الجينية، معتمدين على تحليل جينومات 2000 ميكروب حديث جرت سَلسلتها طيلة عقدين. ومن بين ستة ملايين جين إجمالي، وجدوا 355 عائلة جينية منتشرة بين الميكروبات، ما يُرجّح التوارُث اللاحق لجينات “لوكا”.

لكن ما قصّة الفتحات الحرارية المائية، أي نقاط تلاقي مياه البحر والماغما في قاع المحيطات؟ تُظهر الجينات أن “لوكا” كان ميكروباً محبّاً للحرارة، تواجد في بيئة خالية من الأكسجين، واستخدم الأدينوسين ثلاثي الفوسفات كمصدر للطاقة. وكان أيضه ​​يعتمد على الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون والنيتروجين، محوّلاً إياها إلى مركّبات عضوية مثل الأمونيا. وهذا بالتحديد ما يعزّز الشكوك في أن الحياة على الأرض تشكّلت حول تلك الفتحات.

نقفز من الدراسة الألمانية إلى سنة 2023 وبحث عرضته مجلة “Nature Communications” للمعهد الملكي الهولندي للبحوث البحرية. فبحسب الخبراء، لا بدّ أن “لوكا” كان عبارة عن خلية تحتوي على بروتينات ريبوسومية مشترَكة بين جميع أنواع البكتيريا والعتائق وحقيقيات النوى. وباستخدام نهج جديد للتأريخ الجزيّئي، تمكّنوا من تقدير اللحظة التي انقسم فيها “لوكا” إلى بكتيريا وعتائق ووقت ظهور حقيقيات النوى بشكل أكثر دقة.

النهج المحسَّن بيّن أن أسلاف جميع العتائق الحالية عاشت قبل 3.37 إلى 3.95 مليار سنة. وهذا يجعل آخر سلف مشترك للمعروف منها أصغر سناً من سلف جميع البكتيريا، الذي عاش قبل 4.05 إلى 4.49 مليار سنة. فماذا يعني ذلك؟ إما أن العتائق السابقة انقرضت، أو أنها تعيش في مكان مخفي ما على الأرض. وبعبارات آخرى، انقسم الجذع، “لوكا”، إلى فرع بكتيري وآخر عتيق في مرحلة ما. أما حقيقيات النواة – وتشاركت خلاياها آخر سلف قبل ما بين 1.84 و1.93 مليار سنة –  فليست فرعاً منفصلاً في شجرة الحياة هذه، بل اندماج فرعين منبثقين من البكتيريا والعتائق، توالياً.

بيد أن ثمة عاملاً يضيف بُعداً تعقيدياً على عملية البحث: خضوع الكوكب المتواصل لعمليات تآكل جيولوجية وعضوية. لذا، وجّه فريق علماء من بريطانيا وهولندا والمجر نظرهم إلى مكان آخر: جينومات الكائنات الحيّة والسجلات الأحفورية، وفق دراسة نُشرت في مجلة “Nature Ecology & Evolution” في تموز/يوليو الماضي. واستندت الدراسة إلى ما يُسمّى بالساعة الجزيّئية، حيث يمكن تقدير معدّل حدوث الطفرات واحتساب عددها لمعرفة الوقت الذي مرّ منذ انشقاق الكائنات الحيّة المعنية عن أسلاف مشترَكة.

عمل الفريق على تحديد المدة التي انقضت منذ راح خلفاء “لوكا” يتباعدون في بيئة غير مضيافة تماماً. فلاحظوا أنه  كان على الأرجح مشابهاً جداً للكائنات البدائية وحيدة الخلية. لكن شيئاً آخر أثار اهتمامهم: لم يكن “لوكا”، على ما يبدو، وحيداً. إذ ظهر واضحاً، كما عقّب الفريق، أنه امتلك نظاماً مناعياً مبكراً، ما يدلّ على أن أسلافنا، حتى قبل مليارات السنين، كانوا منخرطين في سباق تسلُّح ضدّ الفيروسات.

ولإعادة بناء جينوم “لوكا”، ركّز الباحثون على مجموعة من 700 جينوم (مناصفة بين العتائق والبكتيريا) جرى تجميعها من دراسة حديثة سابقة. تبِع ذلك تقسيم الجينات إلى عائلات مختلفة واستخدام قاعدة بيانات، تُسمّى “KEGG”، للمساعدة على معرفة المسارات الأيضية للكائنات ذات الصلة، أوّلاً؛ وإنشاء مجموعة منفصلة من 57 جيناً مشتركاً – مُحتمَلة الوجود في معظم أشكال الحياة ولم تتغيّر كثيراً على مدار السنين – بين جميع الكائنات الحيّة موضوع الدراسة، ثانياً.

لكن “لوكا” شهر بوجه الباحثين معضلتين: غياب مجموعة خارجية لأصل الحياة؛ وندرة الحفريات أو الأدلة الجيولوجية المبكرة لغرض معايرة الساعة الجزيّئية. لذا تمّ اللجوء إلى جينات متماثلة سبق ورُبطت بـ”لوكا”. والأخيرة ترافق انقسامها مع عملية تكرار جيني يديم عرى العلاقة بينها من خلال احتفاظ كل منها بنسخة من الجين المكرّر. فكانت النتيجة، بتقدير الفريق، أن سلفنا الأوّل جاب الأرض فعلاً منذ حوالي 4.2 مليار سنة.

إن صحّت التقديرات، لا بد أن تكون الحياة قد تطوّرت بسرعة بُعيد تشكُّل الأرض، كما لفت واضعو الدراسة. وهذا يعني أن ظهور نظام بيئي متكامل في التاريخ التطوّري لكوكب ما يستغرق وقتاً قصيراً نسبياً. وهو اكتشاف ذات دلالات جمّة؛ فالحياة قد ازدهرت أو قد تزدهر – أو هي أصلاً مزدهرة – في غلاف حيوي شبيه بكوكبنا في بُقع كونية أخرى. وقد تكون الفتحات الحرارية المائية الشائعة داخل النظام الشمسي، بالتحديد، منفذاً لتفسير وجود حياة في عوالم نائية أيضاً.

ثمة، طبعاً، من يربط أصول الحياة باليابسة حين كانت الأرض، قبل ما بين 3.8 و4 مليارات سنة، عرضة لكوارث إذ اجتاحتها أسراب من الكويكبات والنيازك والمذنّبات. لكن “برسفيرنس” قد ترفدنا ببعض الأجوبة على أي حال قريباً. أما تعاظُم قدرات الحوسبة الكمومية والروبطة والذكاء الاصطناعي، فمن شأنها تحسين فعالية النماذج التعقّبية التطوّرية هي الأخرى. يبقى علينا، كبشر، أن نعي ما يجمعنا من مشتركات – أوّلها سلفنا الأقدم وليس آخرها مصيرنا الكوكبي المترابط – كلّما راودتنا أوهام التمايز، فالتناحر… فالاحتراب.

https://hura7.com/?p=32985

الأكثر قراءة