الكوكب ينزح نزوحا جماعيا بكل الاتجاهات وفي كل المناطق في العالم.

مشهد مؤلم، لكن يبدو من تكراره بشكل بائس يائس، بات اعتياديا.

آخرها.. فلسطين.. غزة التي لم يتبقى من ملامحها شيئا.

2 مليون فلسطيني، أكثر من نصفهم، يعيش في خيم غير آمنة، خيم هشة ومتشظية لا يمكن أن تأوي نفسها تحت القصف المستمر، وحتى من بقي منهم في جنوب قطاع غزة حتى الآن في منزله، يقفون على شفا النزوح بأي لحظة.
فـ “لا مكان آمن في غزة”..هكذا أعلنها المجتمع الدولي.

وبمشهد آخر.. في ظل تمدد جبهات الصراع اللامتناهي، نجد نزوح العائلات من قرى جنوب لبنان إلى مناطق أكثر أمنا، هربا من التوتر المتصاعد على الحدود اللبنانية الإسرائيلية.

ثم في محاولات لرصد خريطة العالم، ستجد حرب السودان التي نكلت بملايين السودانيين وبأمنهم وآمانهم وحياتهم في يوم وليلة، حتى أغدوا نازحين من مناطقهم، تاركين منازلهم، يهربون من أجلهم ومصرعهم، يحاولون التشبث بشبه حياة تحت زخات الرصاص.

ثم أوكرانيا التي تصدرت المشهد منذ بداية 2022 في مشاهد النزوح.

أوكرانيا التي عبث بأمنها الغرب حتى قبل روسيا، حين قرر أن يُلقي بها في وجه المدفع، في قعر الجحيم، فتلاعب بمصيرها ومصير شعبها بتأجيج الصراع والنزاع والمعاناة _المستمرة حتى اليوم _ودفعها لتخوض حربا نيابة عن حلف أقوى دول العالم.
لكن، من الواضح كان رهان الغرب والولايات المتحدة خاسرا، ليتبين لاحقا، مع استمرار الأزمة حتى اليوم، بأن هذه الحرب كانت أكبر من قدرة أوكرانيا على الصمود أمام الدب الروسي.

ولن ننسى اليمن، بورما والكونغو الديمقراطية، فضلا عن ذيول أزمة أفغانستان المستمرة حتى اليوم والتي يبدو أن صفحتها طُويت من قائمة أولويات العالم، وتُركت تحارب قدرها وعقم واقعها لوحدها.

تقول الأمم المتحدة_ شبه المعطلة_ في آخر تقرير لها، إن أكثر من مئة مليون إنسان تقريبا في العالم يعيشون في حالة نزوح قسري.

المؤسسات الدولية_برأيي_ أصبحت عاجزة عن احتواء معاناة البشر في أي مكان_ أولا لتعاظمها وازديادها وثانيا لأنها تحتاج لتجديد وإعادة إحياء، حيث لم تعد قادرة على تأدية أي من مهامها سوى الاستنكار والإعراب عن قلقها وخوفها.
كل شيء يهرم في هذا العالم، حتى المؤسسات تهرم. أليس كذلك؟

على أي حال..

النزوح.. أي تأجيج شدة وضيق ومعاناة البشر.

أكثر من 100 مليون إنسان يعيشون ظروفا حياتية صعبة، يطالبون بالأساسيات ويحظون بأقل من الفُتات، تم سلب أمنهم، ذكرياتهم، الحب والكره من قلوبهم، أحلامهم، طفولتهم، مشاعرهم، قرارتهم، فردانيتهم، وتم العبث بمستقبلهم بشكل بشع وأبدي.

أكثر من 100 مليون نازح مثقلين بالذكريات الصعبة، بصور الجثث الملقاة على قارعة الطريق، بأصوات الصواريخ، بأحلامهم المكسورة وقلوبهم المخذولة، بأشلاء أصدقائهم وجيرانهم، بالركام وبيوتهم المتداعية التي تُركت ليحل مكانهم الجن والعفاريت.
ملايين من الأرواح تُركوا على قارعة طريق هذا العالم، يواجهون مصيرهم وصعوبات الحياة اليومية وتحدياتها وشحها لوحدهم.

فلماذا اختار هذا العالم أن يكون دستوره العسر لا اليُسر؟

بعيدا عن الحروب، لا يمكن أن ننسى، زلزال تركيا وسوريا والمغرب فضلا عن فيضانات ليبيا التي أخفت درنة كأنها لم تكن يوما.
الكوارث الطبيعية التي لم ترحم الإنسان مؤخرا، حين سئمت الطبيعة من الإنسان وقررت الإنقلاب على جبروته وتطرفه، لكن بغضبها وثورتها زادت وعمقت من معاناة الكثيرين في هذا العالم، من لم يكن لهم ذنبا بحزنها وغضبها وسخطها حقيقة، تركت دون قصد جروحا عميقا في عمق ملايين الأشخاص وتركت الكثيرين دون مأوى، دون حاضر إنساني محترم أو أمل في المستقبل.

الخلاصة، الخيم في العالم تتكاثر بشكل مخيف وتتمدد بشكل مرعب خلال السنوات.
وهذا النظام العالمي الجديد، الذي تحاول بعض أقطاب دول العالم تعزيزه وإعلانه واعتماده، مثقل بأحزان الإنسان وفواجعه.
لكنه لا يكترث حقا..

المشكلة أن هذا العالم يعاني أساسا من مشاكل كثيرة منها صحية بانتشار أمراض كثيرة لا تعد ولا تحصى تحتاج لجهود كبيرة واستثمارات لاكتشاف علاجات.

يعاني من مشاكل اقتصادية تكاد تقضي على دول كاملة بلمح البصر، مشاكل ثقافية متراكمة عبر السنوات بنيت على أسس تاريخ هرم وأساطير وخرافات رثة.

ممتلئ أساسا بمشاكل التصحر، الانقلابات المُناخية وسوء توزيع الموارد في العالم.
ولكن، بدلا من اختيار الاتحاد وإنقاذ البشرية من جحيمها، تختار الأطراف تعميق الأزمات والمأساة بشكل تراجيدي.

التاريخ يُعيد نفسه..

البشر هم البشر، يعيشون في ذات الأنماط على مر التاريخ، ذات الحلقات، ذات الصدمات الثقافية والفكرية، تكرار لذات الأخطاء عبر الأجيال.

الإنسان يصر على أن لا يتعلم أبدا، لا يريد كسر لعنة الأنماط والحلقات التي يدور بها.

وكأن البشر في عام 2023 كان عليهم أن يعيشوا في خيام بدلا من العيش في مدن متطورة متحضرة.

 في عام 2024، أقطاب العالم تزيد من عمق الجهل، والشح، والكره، والتشرد، بدلا من الاهتمام بعلم الإنسان وعقل الأجيال الجديدة وثقافة الشعوب والاستثمار بما يُسمى “إنسان” لأجل مجتمعات بشرية أفضل، أكثر سلاما وأمنا.

يبدو أحيانا لا جهة في العالم قادرة أو تريد حتى احتواء كل هذه الكوارث وغيرها التي لا تنتهي في قارات هذا الكوكب المسكين.
البعض لا حول له ولا قوة وآخرين يتنصلون من المسؤولية.

الجميع يفكر بنفسه، بالنسبة للنظام العالمي الجديد، لا أموال لتقديم المزيد من المساعدات ولبناء دولا جديدة حضارية تحترم وجود الإنسان وقيمته.

لا قيمة للروح، هذا هو الدستور..

لكن، في هذا العالم الجديد، يمكن استثمار الأموال في اختراع أسلحة جديدة قادرة على سحق الإنسان وإبادته بشكل أسرع وأفضل وأكبر وتعزيز معاناته بشكل مستمر.